يقول لنا ابن الخطيب، إن الشيخ أبا حفص حين قرئت عليه رسالة هذا الجندي الأديب، اشتد إعجابه بها، وأحسن إلى كاتبها، واعتقد أنه ذخر يتحف به عبد المؤمن، وأنها لما قرئت بعد ذلك على الخليفة بمحضر من أكابر الدولة عظُم مقدارها، ومقدار منشيها، وبعث في طلبه معززاً مكرماً.
ولما وفد ابن عطية على عبد المؤمن، بالغ في إكرامه، وقلده خطة الكتابة، وأسند إليه وزارته، ثم فوض إليه فيما بعد النظر في أموره كلها، فنهض بأعباء منصبه خير نهوض. ولكن القدر كان يتربص به، وكان يدخر له تلك الخاتمة المؤسية، التي سنقص سيرتها فيما بعد.
وعلى أثر هزيمة الماسي ومصرعه، وانهيار حركته، خرج الشيخ أبو حفص في قواته لمطاردة القبائل الخارجة، فسار أولا إلى هسكورة، وأثخن فيها، ومزق شملها، وسبى أهلها، واستاق غنائمها. ثم سار إلى أرض نفيس، ثم أرض هيلانة، فمزق جموعهم، وفرض عليهم الخضوع والطاعة. وسار بعد ذلك إلى سجلماسة فاستولى عليها، وأمّن أهلها. وعاد إلى مراكش فاستراح بها قليلا، ثم خرج غازياً إلى أرض برغواطة، وكانوا مازالوا على دعوة الماسي، فنشب بينهم وبينه قتال مرير، ومعارك متوالية، استمرت حيناً، وهزم الموحدون في نهايتها. واستمرت برغواطة ومن يجاورها من القبائل في ثورتهم وخروجهم فترة أخرى.
وكان يحيى بن أبى بكر بن علي الصحراوي، أو ابن الصحراوية، حينما فر من فاس، عند سقوطها في أيدي الموحدين، قد غادرها إلى سبتة ليحاول أن يجعل منها قاعدة للمقاومة، وجمع أشتات الفلول المرابطية. وهنا تختلف الرواية في شأن ما تلا من الحوادث التي وقعت في سبتة. ذلك أن البيذق قدم إلينا رواية خلاصتها أن الصحراوي حينما نزل بسبتة، حاصره بها على بن عيسى بن ميمون قائد الأسطول الأندلسي في منطقة قادس، وهو الذي انحاز إلى الموحدين حسبما تقدم، فتودد إليه الصحراوي، وأوهمه أنه يريد أن يبايع الموحدين، وأن يكون توحيده على يديه، وفي اليوم التالي نزل ابن ميمون من سفينته إلى البر، فاستقبله الصحراوي ثم هاجمه فجأة وطعنه برمحه فأرداه، وصلب جثته في برج المدينة، ثم غادر الصحراوي على أثر ذلك سبتة إلى طنجة (١).