وكان عبد المؤمن عقب افتتاح المهدية، قد أرسل إلى الأندلس كتبه بالفتح، وفي مقدمتها كتابه إلى ولده السيد أبى يعقوب والى إشبيلية، وفيه يشرح حوادث الفتح، وما وقع من إجلاء النصارى، وما قام به العرب، من ضروب التمرد والمقاومة، ثم يقرنه بقصيدة يوردها لنا ابن صاحب الصلاة ومما جاء فيها:
ولما قضينا بالمشارق أمرنا ... وتم مراد الله في كل مطلب
وأشرقت الشمس المنيرة فوقنا ... وأصبح وجه الجو غير محجب
وطهر هذا الصقع من كل كافر ... وعاد به الإسلام بعد تغيب
وكسرت الصلبان في كل بيعة ... ونادى منادي الحق في كل مرقب
أشرنا بأعناق المطي إليكم ... فطار بها شأو السرور بمغرب
ووصل كتاب عبد المؤمن بالفتح إلى إشبيلية في صفر سنة ٥٥٥، ويقول لنا ابن صاحب الصلاة، إن السيد أبا يعقوب أمر أن يكتبه الناس والطلبة، وأن يحفظوه، وأن يتلى من فوق المنابر، وأمر كذلك بقرع الطبول، وإقامة المآدب للأجناد والناس كافة، واستمر قرع الطبول، والإطعام ثلاثين يوماً، والبشر يعم أنحاء المدينة، والشعراء ينشدون قصائدهم بالتهنئة، في مختلف المناسبات والمواطن (١).
ولم يكدر صفو هذا البشر الشامل، سوى ما وقع في هذه الآونة بالذات من منازلة ابن همشك لقرطبة، ومصرع واليها ابن يكيت، ومحاصرة قصبة قرمونة، ومن ثم فقد كان رد السيد أبى يعقوب على كتاب الفتح، يتضمن شرحاً لهذه الحوادث، وتضرعاً إلى والده الخليفة، بأن يعجل بالإنجاد والغوث.
وكانت خطة عبد المؤمن لتنظيم شئون الأندلس وإتمام فتحها، وإذكاء حركة الجهاد بها، تتضمن فضلا عن مضاعفة البعوث العسكرية إلى شبه الجزيرة، تحصين قاعدة جبل طارق، وإنشاء مدينة كبرى بها. ومن حسن الحظ أننا نجد أدق شرح وأوفى تفصيل لهذا المشروع الضخم، في رواية بن صاحب الصلاة، وقد كان فضلا عن اطلاعه على الكتب والوثائق المتعلقة بذلك، شاهد عيان وثيق الصلة ببلاط الخليفة، وبالسيد أبى يعقوب والى إشبيلية، والسيد أبى سعيد والي غرناطة، وهما اللذان عنيا بتنفيذ المشروع. وبالرغم من أنه يقرن روايته في معظم
(١) كتاب المن بالامامة على المستضعفين - المخطوط السالف الذكر، لوحة ٢٥.