فصاغ عبد المؤمن بعزمه، وقوة نفسه، وبراعته العسكرية والسياسية، من هذه العناصر المضطرمة الخصيمة، كتلة متناسقة متعاونة متحدة، وأنشأ منها الدولة الموحدية الكبرى، أعظم الدول المغربية إطلاقاً، واستطاع أن يجعل من الدعوة المهدية أو الدعوة الموحدية، ناموساً دينياً، ودستوراً نظامياً، تقوم عليه وتستمد منه، مقوماتها السياسية والعسكرية.
وقد رأينا أن عبد المؤمن، نشأ طالب علم متواضع، تجتمع آماله حول التقدم في هذا المضمار، والتقى بالمهدي ابن تومرت، في بداية أمره، وقبل أن تلوح لدعوته وتعاليمه أية بارقة أمل، في التقدم أو الرسوخ. ومع ذلك فقد ثبت إلى جانبه وشاطره كل آلامه ومحنه، وكل آماله ومشاريعه، وغدا ساعده الأيمن في كفاحه. وكان هذا الاختصاص بالمهدي وإيثار المهدي لتلميذه الوفي، من أهم العوامل، التي مهدت لعبد المؤمن، عند وفاة أستاذه وإمامه، سبيل الاحتواء على تراثه وخلافته. ولم تخب فراسة المهدي في تلميذه، حينما قال لصحبه وهو في مرض موته عقب هزيمة البحيرة الساحقة، إنه ما دام عبد المؤمن قد سلم، فسوف يبقى أمرهم. وقد شاء القدر أن يقوم عبد المؤمن بالمهمة الكبرى، مهمة سحق الدولة المرابطية، وإنشاء الدولة الموحدية الكبرى على أنقاضها، وأنقاض الإمارات الإفريقية. وقد استمرت الدولة الموحدية حيناً، تحتفظ بطابعها الروحي، وأساسها الديني، حتى عمد عبد المؤمن بعد أن تضخم ملكه، وتوطد سلطانه ونفوذه، بين سائر الطوائف والقبائل، إلى إنشاء السلطة الزمنية الوراثية، بتعيين ولده لولاية العهد. وكانت هذه الخطوة أعظم تطور حدث في طبيعة الدولة الموحدية، التي تغدو من ذلك الحين، خلافة زمنية سياسية، ويتضاءل أساسها الروحي. ويمكننا أن نعتبر الخلافة الموحدية المؤمنية، أعظم خلافة قامت في الغرب الإسلامي، وإن كانت خلافة قرطبة الأموية تتفوق عليها بخواصها التمدنية والحضارية، وأن نعتبر عبد المؤمن أعظم خلفاء الغرب الإسلامي، وإن كان عبد الرحمن الناصر يتفوق عليه بخواصه المصقولة وخلاله الإنسانية، بل نستطيع أن نعتبر أن عظمة الدولة الموحدية الكبرى تنحصر في عصر عبد المؤمن، وولده أبى يعقوب يوسف، وحفيده أبى يوسف يعقوب المنصور (٥٢٤ - ٥٩٥ هـ)، وهي حقبة من سبعين عاماً، تستنفذ الدولة الموحدية فيها كل مصادر قوتها، وعظمتها.
هذا وربما كان عبد المؤمن بخلاله العلمية، وحياته العسكرية الحافلة بالغزوات