وذكاء، وأن يدرأ عنها خطر نصارى الشمال والفرنج، ولما فقد يوسف رياسة الأندلس في يوم المسارة، لبث مع ذلك أخطر قوة تهدد طالع عبد الرحمن الأموي وسلطانه، ولبث روح الثورة والمعارضة مدى أعوام أخرى. وكان الصميل زعيما قوى العصبية، نافذ الرأي والكلمة، وافر الدهاء والمكر، يخشى بأسه ووحيه. فكان ذهابهما من الميدان فوزاً لعبد الرحمن، وخطوة كبيرة في سبيل استقرار رياسته وتوطدها.
وقطع عبد الرحمن أعوامه التالية في كفاح مستمر، يتلقى وثبات الخوارج عليه من كل صوب. وكان أول الخوارج عليه بعد مصرع يوسف والصميل، القاسم ابن يوسف وحليفه رزق بن النعمان الغساني. وكان القاسم حينما فر من طليطلة كما قدمنا، قد سار إلى الجزيرة الخضراء، والتجأ إلى شيخها رزق بن النعمان صديق أبيه، وحشد حوله جمعاً من الأنصار والمرتزقة، واستولى بمعونة حليفه على شذونة، ثم سارا في قواتهما إلى إشبيلية، ولم تكن بها قوة تدافع عنها، فاستوليا عليها دون مشقة، فبادر عبد الرحمن الأموي في قواته إلى إشبيلية، ونشبت بينه وبين الخوارج معركة عنيفة، قتل فيها رزق بن النعمان ومزق جنده، ودخل عبد الرحمن إشبيلية ضافراً، وذلك في أواخر سنة ١٤٣هـ. أما القاسم فالتجأ بقواته إلى شذونة، وبعث عبد الرحمن في أثره تماماً والي طليطلة، فطارده حتى أسره ومزق قواته (١).
ولبث عبد الرحمن بإشبيلية بضعة أشهر، ولكنه ما كاد يغادرها إلى قرطبة حتى نشبت فيها ثورة أخرى، بقيادة عبد الغافر اليماني زعيم اليمانية، واستولى عبد الغافر على ما جاور قرطبة من الأنحاء، وكثرت جموعه ولا سيما من البربر، وأصبح يهدد قرطبة. فخرج عبد الرحمن لقتاله، والتقيا بوادي قيس على مقربة من قرطبة، فاستمال عبد الرحمن حلفاء عبد الغافر من البربر وانفض عنه جندهم، واقتتل الفريقان فهزم عبد الغافر هزيمة شديدة، وفر إلى لَقَنت، وطارد عبد الرحمن جنده حتى قتل منهم ألوفاً عديدة (سنة ١٤٤ هـ).
ورفع لواء الثورة من بعده في إشبيلية أيضاً، حيوة بن ملامس الحضرمي
(١) Conde: ibid., V.I.p. ١٧٨ , وأخبار مجموعة ص ١٠١.