تقرع، وقد أبدع كل منهما في حركاته ومناوراته. ثم تقدم أخوا الخليفة وأشياخ الموحدين وأشياخ العرب وجميع الوافدين للسلام على الخليفة، وانصرف الخليفة بعد ذلك في عسكر الموحدين إلى المدينة، وضرب العرب محلتهم في الفحص. وفي اليوم التالي، الثالث من ربيع الأول، أمر الخليفة بدخول أشياخ العرب والوفود لمبايعته، وأخذ العهد عليهم، فأدخلوا واستغرقت بيعتهم أسبوعاً حتى العاشر من ربيع الأول.
وفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من ربيع الأول، خرج الخليفة عقب الصلاة إلى البحيرة (البستان) خارج الحضرة، ومدت المآدب العظيمة لإطعام العرب والوافدين. ويصف لنا ابن صاحب الصلاة، وقد كان من شهود هذه الحفلات كلها، هيئة الإطعام، فيقول إن كل طائفة من ثلاثة آلاف رجل كان يقدم لها الطعام، وكلما انتهت طائفة من الأكل، سارت إلى موضع الخليفة وسلمت ودعا لها. واستمر حفل الإطعام أياماً، وقد أربى ما كان يقدم فيه على ما تقدم من الإنعام المماثل. ولم يعكر صفو هذا الحفل سوى مشادة حدثت بين صبيان الموحدين وأتباع العرب، وقعت خلالها بعض الاعتداءات على النفس والمال، وبادر العرب بالاعتذار وطلب العفو من الخليفة لما وقع من أتباعهم، فصفح الخليفة عنهم، وأمر بالاستمرار في إطعامهم وإكرامهم (١).
وكانت آخر خطوة في هذه الأحداث المتعاقبة، إجراء التمييز لعسكر العرب والموحدين، ففي اليوم الثامن من جمادى الأولى أمر الخليفة بتمييز العرب الوافدين ومن وصل معهم، وأن يحضروا بين يديه في رحبة قصره بدار الحجر، ورتب دخولهم كل يوم بعدد معلوم من مختلف القبائل، فاستمر تمييزهم خمسة عشر يوماً، والخليفة جالس في مجلسه مع أشياخ الموحدين وأشياخ طلبة الحضر وأشياخ العرب، يحرض العرب والناس على الجهاد، ويحث على التفاني فيه. ولما انتهى التمييز، دعا الخليفة أشياخهم وكبراءهم، وأحضرت زمامات التمييز الأول، أيام الخليفة عبد المؤمن، فوجدت في التمييز الجديد زيادة كبيرة في الأجور. وكان قصد الخليفة من التوسعة على العرب، أن يمتنعوا عن عاداتهم الذميمة في الاعتداء على الأموال وخطف العمائم والثياب والسروج وغيرها،
(١) يقدم إلينا ابن صاحب الصلاة وصفاً ضافياً لهذه الاستقبالات والحفلات في" المن بالإمامة " لوحات ١٤٦ ب إلى ١٤٩ ب.