والقصور والرياض الخليفية، وأمر الخليفة بعد ذلك، بإجراء الماء إلى داخل المدينة لسقاية الناس، وتوفير مرافقهم، فقام الحاج يعيش بتنفيذ هذه الرغبة على أكمل صورة، وأنشىء داخل إشبيلية محبس للماء بحارة منور وهو نهاية جريانه، وتم توصيل الماء إلى المدينة على هذا النحو في اليوم الخامس عشر من جمادى الآخرة سنة ٥٦٧ هـ، وحضر الخليفة حفل إجرائه في جماعة كبيرة من الجند والأشياخ والفقهاء والطلبة، وضربت الطبول، وساد البشر واليمن بين الناس.
على أن أعظم منشآت الخليفة أبي يعقوب يوسف بإشبيلية، هو الجامع الأعظم، الذي ما زالت تقوم منه حتى اليوم بعض البقايا الدارسة، إلى جانب كنيسة إشبيلية العظمى، التي أقيمت فوق أنقاضه. وكان البدء بإنشائه واختطاط موقعه في شهر رمضان سنة ٥٦٧ هـ، فهدمت لذلك الغرض ديار كثيرة داخل القصبة تحت إشراف العريف أحمد بن باسُه، واجتمع بإشبيلية للقيام بأعمال الإنشاء، العرفاء، والبناؤون من أهل إشبيلية، ومن سائر قواعد الأندلس، ومن أهل العدوة ولاسيما مراكش وفاس، واجتمع معهم أمهر العمال من سائر الحرف المطلوبة. وكان الموحدون حينما افتتحوا إشبيلية قد أنشأوا لهم بقصبتها جامعاً صغيراً يؤدون فيه شعائرهم، ولكنه أضحى يضيق بهم، بعد أن تكاثروا وكثرت وفودهم، ومن جهة أخرى، فإن المدينة ذاتها كانت في أشد الحاجة إلى مسجد جامع يتفق مع ضخامة عمرانها، وأهميتها كمقر للحكومة الموحدية بالأندلس. وكان مسجد إشبيلية الجامع، المسمى بجامع العدبّس أو ابن عدبّس وهو المنسوب للقاضي عمر ابن عدَبّس، والمشيد في سنة ٢١٤ هـ، أيام الأمير عبد الرحمن بن الحكم، قد ضاق برواده، نظراً لنمو المدينة وتكاثف سكانها، وكثرة الموحدين الوافدين عليها، ولم يفكر أحد من أمراء بني عبّاد أيام دولتهم، في إنشاء مثل هذا الجامع لانهماكهم في شئون الإمارة، وإنشاء القصور ودور القصف، وإهمالهم لشئون العبادة. يقول ابن صاحب الصلاة وقد كان من سكان إشبيلية، وكان شاهد عيان لإقامة هذه المنشآت كلها، إن أمير المسلمين الخليفة أبا يعقوب " قد حاز الذخر والأجر في بناء هذا المسجد الجامع الكبير توسعة للناس، فأسسه من الماء بالآجر والجيار والحصى والأحجار، على أعظم البناء والاقتدار، وأسس أرجله المعقودة بطاقات بلاطابية تحت الأرض، أطول مما فوق الأرض، وجمع عليه الفعلة بكثرة الرجال والخدام، وإحضار الآلات من الخشب المجلوب من سواحل العدوة