للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مما لا يقدر عليه ملك من ملوك الأندلس قبله، فأعلى بنيته، وصقل صفحته بالإتقان لتشييده وتوثقه، وأنفذ أمره العالي ببنيانه في رمضان من سنة سبع وستين وخمسمائة المؤرخة، لم يرفع عنه البناء قط في فصل من فصول السنين مدة إقامته بإشبيلية، إلى أن كمل بالتسقيف وجاء في أبهى النظر الشريف، أعجز في بنيانه من تقدمه، وتفنن في ميزابه وخبره ورخمه مقدمه، قارب جامع قرطبة في السعة، وليس في الأندلس جامع على نده، وسعته وعدد بلاطاته ".

وتولى النظر على بناء الجامع وعرفائه العريف أحمد بن باسُه، والنظر على النفقة أبو داود بن جلداسن خاصة أمير المؤمنين، وكان من الحفاظ على البناء من أهل إشبيلية، أبو بكر بن زهر، وأبو بكر الساقي. ويصف لنا ابن صاحب الصلاة مراحل إتمام الجامع على النحو الآتي: إن سرب المدينة كانت تشق بجريها تحت الأرض على مواضع اختطاط هذا الجامع، فنكبت عنه، وصرفت إلى جهة الجوف على سرب واسع، وعمل على توثيق البناء تحت الأرض، وعنى العرفاء ببناء القبة التي على محرابه وبنجارتها أعظم عناية، وأقاموا عن يسار المحراب، ساباطاً في الحائط، يشقه الخليفة من القصر إلى الجامع، لشهود صلاة الجمعة، وافتن الصناع في عمل المنبر وصياغته من أكرم الخشب، وفي إبداع نقوشه، وترصيعه بالصندل المجزع بالعاج، وأبنوسه يتلألأ بصفائح الذهب والفضة، " وأشكال في عمله من الذهب الإبريز، يتألق نوراً، ويحسبها الناظر لها في الليل البهيم بدوراً ". ثم عملت له مقصورة من الخشب مزينة بالفضة. وكان الخليفة يتفقد بناءه بنفسه في أكثر الأيام ومعه أشياخ دولته، ويشير للمشرفين عليه بالجد في البناء وإتقانه، حتى كملت جهاته الأربع بالبناء وعقد الأقواس، وكمال التسقيف، واستغرق بناؤه ثلاثة أعوام وأحد عشر شهراً، إلى أن حان موعد عودة الخليفة إلى حضرة مراكش في الرابع عشر من شعبان عام ٥٧١ هـ، وأمر بتسريح العرفاء والبنائين والصناع إلى مواطنهم. على أن هذا الجامع لم يفتتح للصلاة بصفة رسمية وتقام به الخطبة، إلا بعد ذلك بنحو سبعة أعوام، وأقيمت فيه الخطبة لأول مرة يوم الجمعة ٢٤ ذي الحجة سنة ٥٧٧ هـ (٣٠ أبريل سنة ١١٨٢ م) وذلك على يد السيد أبي إسحاق إبراهيم ابن الخليفة أبي يعقوب، ووالي إشبيلية عندئذ، وأزيلت الخطبة من جامع ابن عدبّس من ذلك التاريخ (١).


(١) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة "، لوحة ١٦٧ أو ١٦٨ أوب ١٦٩ أ، وروض القرطاس ص ١٣٨، والبيان المغرب القسم الثالث ص ٩٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>