للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من أنه لم يحقق في ميادين الحرب والسياسة نتائج عظيمة كالتي حققها أبوه الخليفة عبد المؤمن، وولده الخليفة يعقوب المنصور، فإنه يعتبر مع ذلك، ولاسيما من النواحي الإدارية والعمرانية، ثالث هؤلاء الخلفاء الثلاثة، الذين بلغت الدولة الموحدية في ظلهم أوج قوتها وعظمتها.

وقد امتاز حكم الخليفة أبي يعقوب بالحزم، وتحري الحق والعدالة ومطاردة الظلم والبغي (١)، وترجع هذه النزعة إلى ما كان يتسم به هذا الخليفة من التقى والورع، ومن العلم والتبحر في العلوم الشرعية. وقد ظهرت هذه النزعة بصورة عملية، في غير مناسبة من أوامره وتصرفاته. وربما كانت رسالته التي وجهها إلى أخيه السيد أبي سعيد والي قرطبة، وإلى سائر الطلبة الموحدين بالأندلس في سنة ٥٦١ هـ، بشأن وجوب تحري الدقة في تنفيذ الأحكام وتوقيع العقوبات، أبرز محاولة بذلها في هذا الشأن. وقد رأينا كيف عنى الخليفة في هذه الرسالة التي لخصنا محتوياتها فيما تقدم، بإصدار أمره إلى الموحدين بألاّ يُقضى بحكم الإعدام إلا بعد أن ترفع النازلة إلى الخليفة مشفوعة بالشرح وأقوال الشهود والعدول، وأن تكتب أقوال المظلومين وحججهم، وإقرارهم واعترافهم، وأن يدقق في الجرائم التي دون القتل، وكذا في سائر المعاملات والأموال، واستحقاقها، وفي الرقاب وعتقها وغير ذلك. وكان الخليفة إلى جانب هذه المحاولات الشرعية، يقوم بمطاردة الظلم والعمال الظلمة، فإذا وقف على ما يرتكبه بعضهم من ظلم أو عسف أو اغتيال أموال الناس بالباطل، عزله ونكبه. وكان من أبرز ما فعله في ذلك بطشه بعمال مدينة فاس وملحقاتها، والتنكيل بهم، ومصادرة دورهم وأموالهم (٢)، وما قام به في جوازه الأول إلى الأندلس من نكبة بعض عمال إشبيلية والمخزن من المختلسين وغيرهم، وما قام به بعد ذلك من نكبة عماله ووزرائه بني جامع الذين استأثروا بالوزارة دهراً، وغير ذلك مما أشرنا إليه.

وإلى جانب هذه النزعة إلى تحقيق العدالة، كان حكم أبي يعقوب متسماً بالمقدرة والحزم، فقد كان خبيراً بشئون مملكته، عارفاً بسياسة رعيته، دؤوباً


(١) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة ٤٦ ب.
(٢) البيان المغرب - القسم الثالث ص ١٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>