للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

متقناً للعلوم الشرعية والأصولية، متقدماً في علم الإمام المهدي رضي الله عنه " (١). على أن ما يجمله ابن صاحب الصلاة في تلك الكلمات القليلة، يفصله لنا المراكشي بإفاضة في حديثه عن أبي يعقوب. وقد عاش المراكشي قريباً من عصر أبي يعقوب، وكانت تربطه بعدة من أبنائه مثل أبي زكريا يحيى، وأبي عبد الله محمد، وأبي إبراهيم إسحق، روابط وثيقة.

يقول المراكشي إن أبا يعقوب كان " أعرف الناس كيف تكلمت العرب، وأحفظهم بأيامها ومآثرها وجميع أخبارها، في الجاهلية والإسلام ". ثم يقول: " إنه كان أحسن الناس ألفاظاً بالقرآن، وأسرعهم نفوذ خاطر في غامض مسائل النحو، وأحفظهم للغة العربية " (٢).

ويجب لكي نقدر روعة هذه الصفات في أبي يعقوب، أن نذكر أولا أنه كان بأرومته من صميم أصول البربر، وذلك سواء من ناحية أبيه أو ناحية أمه، وقد ولد ونشأ بتينملل عاصمة المهدي، في بيئة بربرية محضة، ولكن يجب أن نذكر إلى جانب ذلك أن أبا يعقوب كانت تحمله نفس الروح العلمية التي امتاز بها أبوه الخليفة العالم عبد المؤمن بن علي، ثم يجب أن نذكر أيضاً أن أبا يعقوب قضى زهرة فتوته في إشبيلية مذ عينه أبوه والياً لها في سنة ٥٥١ هـ، وهو في نحو الثامنة عشرة من عمره، حتى وفاة أبيه في سنة ٥٥٨ هـ، حينما استدعى لتولي الخلافة من بعده. ففي هذه الأعوام الثمانية التي قضاها أبو يعقوب في المدينة الأندلسية العظيمة، التي كانت قد غدت منذ اضمحلال قرطبة عاصمة الأندلس الفكرية، تفتحت مواهب أبي يعقوب العلمية والأدبية، وقد كانت إشبيلية يومئذ مجمع أقطاب اللغة والعلوم الدينية، وكان أبو يعقوب منذ حداثته حافظاً للقرآن متمكناً من الحديث، حتى قيل إنه كان يحفظ صحيح البخاري. وكان في نفس الوقت بارعاً في الفقه، وفي إشبيلية تلقى علوم اللغة عن بعض أقطابها، وفي مقدمتهم العلامة اللغوى أبو إسحق إبراهيم بن عبد الملك المعروف بابن ملكون، وبرع في النحو والأدب. ولما ولي الخلافة، وعاد إلى إشبيلية في جوازه الأول إلى الأندلس، واستطالت إقامته بها زهاء خمسة أعوام أخرى، تجلت في هذه الفترة روعة مواهبه العلمية، وجنح إلى دراسة الفلسفة والطب، واجتمع حوله يومئذ ثلاثة من أعظم


(١) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة ٤٦ ب.
(٢) راجع المعجب ص ١٣٢ و ١٣٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>