للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونظم الشعراء قصائدهم كالعادة في امتداح المنصور، وتهنئته بالقضاء على هذه الفتنة. فمن ذلك ما قاله الجراوي من قصيدة طويلة:

نار من الفتنة العمياء أطفاها ... سعد الإمام وحد الصارم الذكر

ما زال إبليس في الأقطار يوقدها ... وترتمي من شرار الخلق بالشرر

زاد الشقي على الخفاش مشبهه ... ضعف البصيرة إذا ساواه في البصر

جارى إلى سقر أصحابه فهووا ... فيها سراعاً ووافاهم على الأثر

تلك هي رواية صاحب البيان المغرب عن ثورة الجزيري، وهي فيما يبدو مستمدة من أقوال ابن صاحب الصلاة، وهي رواية بلاط لا تمثل سوى وجهة النظر الرسمية.

بيد أنه يبدو من جهة أخرى أن ثورة الجزيري، كان لها شأن آخر، وأن الجزيري واسمه الكامل أبو عبد الله محمد بن عبد الله الجزيري، لم يكن ذلك الدجال المشعوذ، الذي تقدمه إلينا الرواية الموحدية. فهو عالم أندلسي من أهل الجزيرة الخضراء، أخذ من مختلف العلوم قسط وافر، وكان يُنعي على الدولة الموحدية ما جنحت إليه من الأخذ بأسباب الأبهة والترف، ومن مخالفة تعاليم المهدي الأصلية. وكان يضطرم بنزعة إصلاحية، ويطمح إلى إحياء سنن المهدي ابن تومرت، ويبث دعوته بين الكافة بقوة وبراعة، حتى عظم أمره، وكان شاعراً مجيداً. ومن قوله يشير إلى رسالته الإصلاحية:

في أم رأسي سر ... يبدو لكم بعد حين

لأطلبن مرادي ... إن كان سعدى معيني

أو لا فأكتب ممن ... سعى لإظهار ديني

وكانت الجموع تهرع إلى الالتفاف حوله أينما وجد، وتذاع عنه وعن دعايته أغرب الروايات، حتى زعم بعض الناس أنه يتصور في صور الحيوانات مثل القطط والكلاب وغيرها. وكان من الطبيعي أن تفزع السلطات الموحدية لأمر هذا المصلح الثائر، وأن تخشى من تأثير دعايته في الجموع، وأن تبث عليه العيون والأرصاد في كل مكان. وكان ينجح في الإفلات من المطاردة في أحيان كثيرة، حتى قبض عليه أخيراً في بعض قرى مدينة بسطة، وقتل،

<<  <  ج: ص:  >  >>