على أننا نستطيع، بالرغم من هذه الآثار السلبية، التي انتهت إليها محاولات صلاح الدين للحصول على عون الخليفة الموحدي، أن نقول إنها كانت تنطوي على نفس المغزى العظيم الذي أوحى ببذلها، وهو رسوخ التضامن الروحي، وقوة المشاعر المشتركة، بين شطري الكتلة الإسلامية، في المشرق والمغرب، في تلك العصور التي تعرض فيها كلاهما لمحنة العدوان الصليبي.
- ٣ -
لبث المنصور خلال إقامته بإشبيلية، مذ عاد إليها في جمادى الآخرة سنة ٥٨٦ هـ، يجد في أهباته العسكرية، ويجمع الآلات والعدد، ويستكمل ضم الحشود. فلما تمت أهباته، واستكملت من سائر نواحيها، عزم على الحركة والسير لاستئناف الغزو، فخرج من إشبيلية في غرة ربيع الآخر سنة ٥٨٧ هـ (٢٨ أبريل سنة ١١٩١ م) في قوات كثيفة، حسنة الأهبة والهيئة والنظام، وعبر نهر وادي يانه مخترقاً أراضي البرتغال، ومتجهاً نحو الشمال الغربي، وكان مقصد الخليفة الأول، هو قاعدة قصر الفتح أو قصر أبي دانس الحصينة، الواقعة جنوب شرقي أشبونة على الضفة اليمنى لنهر سادو، على مقربة من البحر (١)، فلما وصل إليها قُسمت الحشود الموحدية وفق نظام خاص، وقام العبيد وأهل الخدمة بردم خندق المدينة من جهاتها الأربع، وأقبلت القوات الموحدية إلى السور تحاول اقتحام المدينة، ولكن البرتغاليين أمطروا المهاجمين وابلا كثيفاً من النبال والحجارة، فأصيب كثير من الجند الموحدين بالجراح. فلما رأى المنصور فتك النبال بجنده، أمر بوقف القتال ثلاثة أيام، طلباً للراحة، والعود إلى مهاجمة المدينة بعزائم أشد. ووصل في تلك الأثناء جانب من الأسطول الموحدي، دخلت سفنه النهر الذي تقع عليه المدينة، وهي تحمل آلات الهجوم الفتاكة. وفي الحال - في خلال يوم وليلة فقط - نصبت حول المدينة أربعة عشر منجنيقاً. وفي اليوم الخامس عشر من جمادى الأولى (سنة ٥٨٧ هـ) الموافق ١٠ يونيه سنة ١١٩١، صدر الأمر لسائر الجيش الموحدي بمهاجمة المدينة، فانقض عليها من سائر الجهات، وأخذت
(١) كانت قاعدة القصر Alcacer do Sal في ذلك الوقت، حسبما يصفها لنا الإدريسي، مدينة حسنة متوسطة على النهر المسمى شطوبر ( Sadoa) وهو نهر كبير تصعد فيه السفن والمراكب السفرية بكثرة. وفيها استدار بها من الأرض كلها أشجار الصنوبر، وبها الإنشاء الكثير، وبينها وبين البحر عشرون ميلا (وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس ص ١٨١).