ولم يمض قليل على ذلك حتى مرض المنصور مرضه الأخير، وكان قد انتقل من الحضرة إلى ضاحية الصالحة الملكية التي كان قد أنشأها في بداية عهده، ولما شعر بخطورة مرضه، ودنو أجله، استدعى شيوخ الموحدين، ووجوه أهل بيته، وأعيان بلاطه، وقد وصف لنا صاحب البيان المغرب، ما وقع في هذا المجلس الأخير للخليفة الراحل، وما أوصى به أشياخ دولته وأهل بيته، فقال إنه لما استقر المجلس بالحضور، اتجه الخليفة إليهم ببصره، وقد اغرورقت عيناه بالدمع، فسألهم عن أحوالهم وأعمالهم، ثم قال:" أيها الناس رحمكم الله، إن هذه العلل والأمراض قد توالت علينا، وهدت قوانا، وهتكت جوارحنا، وأظن والله أعلم بغيبه أن هذه العلة هي آخر عهدنا بهذه الدنيا، وأنها القاضية علينا، فانظروا رحمكم الله، وأعانكم على طاعته، من تقدمون على أنفسكم وعلى رقاب المسلمين ". قال، فغلب البكاء على الحاضرين، وتكلم أبو موسى بن محمد بن الشيخ أبي حفص بن علي، وقال " كأنكم يا أمير المؤمنين يا سيدنا تخرسنا بهذا القول، أنتم أمير المؤمنين، فإن توفيتم فإلى رحمة الله تعالى، والجميع صائرون ومنقلبون إلى ما تصيرون إليه، وكنتم قلدتمونا عهدكم الكريم لسيدنا الأمير الأجل أبي عبد الله ابنكم، فنحن باقون عليه، إلى أن تلحق نفوسنا بنفوسكم، وهو خليفتكم علينا بعدكم ".
ثم تعاقب الحضور في الكلام، وأبدى الخليفة لهم قلقه لصغر سن ولده، وطلب إليهم أن يدعوا الله تعالى باليمن والإقبال، فيما انعقدت عليه النية، وأن يتولوه بمعونتهم، ولا يتركوه لرأيه، حتى ينتبه، ويكمل عقله. ثم التفت إلى السيد أبي الحسن، وأخيه السيد أبي زيد، ابني السيد أبي حفص. وقال إنهما لخير هذا البيت، وإنه قدّمهما على الإخوان، وعلى البلاد، فليكونا على ما عهد منهما، وعلى ما ربط لهما من قبل.
ثم أوصى الخليفة الحاضرين بالسادات، وبعض الأشياخ، وخص منهم بالذكر الشيخ أبا زكريا، وأبا محمد عبد الواحد، وأن يعتبر هذان الشيخان مستشارين لولده محمد، لا يصدر إلا من رأيهما ومشورتهما.