الرغبة فى الجهاد. والواقع أن الجهاد هو ألمع ما فى حياة المنصور العامة، وقد أسبغت عليه غزواته الموفقة للممالك النصرانية فى شبه الجزيرة، ولاسيما انتصاره الباهر فى موقعة الأرك، على شخصه وعلى جهاده، هالة من العظمة والجلال غلبت على كل خلاله ومناقبه الأخرى.
وقد رأينا المنصور منذ بداية حكمه ملكاً حازماً، يعمل على إقامة العدل وتوطيد أسسه، والنظر فى الأحكام بنفسه، ومراقبة أعمال الولاية والعمال، ومحاسبتهم، ومطاردة من ينحرف منهم عن جادة الحق والعدل وعزلهم، ثم رأيناه ملكاً مصلحاً، يضطرم بروح إنشائية قوية، ويعنى بإقامة المنشآت العظيمة، من مدن وحصون وجوامع وغيرها، سواء بالمغرب أو الأندلس.
وأول ما تشيد به الرواية من صفات المنصور هو ورعه وتقواه، والتزامه أحكام الشريعة وسننها، ومحاولة تطبيقها على حقيقتها، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإقامة الحدود، حتى فى أهله، وعشيرته الأقربين، وكان مثل جده عبد المؤمن يشدد فى إلزام الرعية بإقامة الصلوات الخمس، ويأمر بالمناداة عليها، ويعاقب على تركها، وكان يشتد كذلك فى إقامة الحدود، ويذهب فى ذلك أحياناً إلى حدود بعيدة، حتى قيل إنه عاقب على شرب الخمر بالقتل، وأمر بقتل بعض العمال الذين تشكو الرعية منهم (١).
وقد كان للمنصور من الناحية الدينية موقف خاص، يمكن أن يوصف بأنه انقلاب فى ميدان المذهب والعقيدة فى الدولة الموحدية، فهو أولا قد طارد علم الفروع، أعنى دراسة تفاصيل العبادات والمعاملات. وأمر بإحراق كتب المذهب المالكى فى سائر البلاد مثل مدونة سحنون، وكتاب ابن يونس، ونوادر ابن أبى زيد، وكتاب التهذيب للبرادعى، وواضحة ابن حبيب، وأمر الناس بترك الاشتغال بعلم الرأى والخوض فيه، وأنذر من يفعل ذلك بشديد العقاب، وأمر جماعة من العلماء المحدثين بجمع أحاديث من المصنفات العشرة فى الصلاة وما يتعلق بها على نحو المجموعة التى جمعها ابن تومرت فى الطهارة، وذاع هذا المجموع فى المغرب، وأقبل الناس على حفظه. وكان قصد المنصور من ذلك أن يمحو
(١) ابن خلكان ج ٢ ص ٤١٨، و ٤٣٣، وابن الأثير ج ١٢ ص ٥٧، والبيان المغرب القسم الثالث ص ٢٠٥، والمقرى فى نفح الطيب ج ٢ ص ٥٣٦.