للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المنصور من عزم وضخامة فى أهباته العسكرية، وما وفق إليه من انتصارات باهرة ضد النصارى فى شبه الجزيرة الإسبانية، ولاسيما فى معركة الأرك العظيمة. وربما كان من بواعث هذه الفكرة ومشجعاتها، مَثل الفاطميين، الذين ساروا من المغرب، قبل ذلك بأكثر من قرنين، وغزوا مصر، واستولوا عليها بأيسر أمر. ولكن شتان بين العصرين، وشتان بين ما كانت عليه مصر وقت الفتح الفاطمى، وما كانت عليه أيام الخليفة المنصور. بيد أننا لا نستطيع مع ذلك، أن نعتقد أن الموحدين كانوا يحتضنون مشروع غزو مصر بصورة جدية. وأكبر الظن أنها ربما كانت أمنية، وربما كانت مُثُل هذه الأمنية ترجع إلى عصر المهدي ذاته، فقد رأينا المهدي أثناء مقامه بثغر الإسكندرية يغضب لما رآه فيها من " البدع " ثم يقوم بها بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، حتى قيل بأنه خرج منها منفياً، لما ترتب على دعايته من الشغب. بل قيل أكثر من ذلك، وهو أن المهدي قال ذات يوم لبعض أصحابه فيما قال ووعدهم به، وكانوا يجلسون تحت شجرة الخروب المواجهة لمسجد تينملّل: " ليبصرنّ منكم من طالت حياته أمراء أهل مصر، مستظلين بهذه الشجرة، قاعدين تحتها " (١). كذلك يلوح لنا أن ما يذكره ابن جبير عن انتشار فكرة الغزو الموحدى بمصر، وماكان يهمس به الناس من ذلك الأمر، إنما هو مبالغة ترجع إلى ولاء ابن جبير للدولة الموحدية، التى خدم فى ظلالها وتمتع برعايتها، والأغلب أن ابن جبير تلقى أخباره من بعض الغلاة الهائمين من أتباع المهدي وأنصاره بمصر، فصورها على أنها تعبر عن اتجاه أغلبية الأمة المصرية، وهو ما يعتبر فى نظرنا من ضروب الوهم المغرق. ولاشك أن الموحدين، وفى مقدمتهم الخليفة المنصور، كانوا يعرفون ما كانت عليه قوة مصر فى ذلك العهد، التى نعمت فيه بقيادة الملك الناصر صلاح الدين، وما أحرزته بقواتها العسكرية الضخمة البرية والبحرية، من انتصارات باهرة على الصليبيين، فلم يكن من المعقول أن يفكروا فى غزو مثل هذه الإمبراطورية الإسلامية الضخمة، التى تحطمت على صخرة قوتها الراسخة حملات الصليبيين المتوالية، ومن جهة أخرى، فإن قصور الموحدين فى هذا الوقت بالذات عن القضاء على ثورة بنى غانية فى إفريقية بصورة حاسمة، واستمرار هذه الثورة العتيدة، أيام المنصور ومن بعده أعواماً طويلة، يقطع بأن فكرة


(١) المراكشي فى المعجب ص ١٦٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>