للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غزو مصر، إن كانت، لم تكن لدى الموحدين سوى أمنية خيالية بعيدة المنال.

وكان المنصور عالماً مستنيراً، متقناً للحديث والفقه واللغة، مشاركاً في كثير

من العلوم، وكان محباً للعلماء مؤثراً لهم يجمع حوله صفوة العلماء والمفكرين،

وقد أشرنا من قبل إلى شغفه بالجدل والمناقشات الفلسفية، وما كان يعقده من

مجالس خاصة يستمع فيها إلى آراء الفيلسوف ابن رشد. وقد كانت نكبة الفيلسوف العظيم ونفيه إلى اليسّانة من سقطاته البارزة، ولكن كان متأثراً في ذلك بضغط الفقهاء والطلبة الموحدين. وكان المنصور يعنى بأمر طلبة العلم أعني علم الحديث، أعظم عناية، حتى نالوا على يديه من الرعاية والنفوذ ما لم ينالوه أيام أبيه وجده. وكان الموحدون يتبرمون بالطلبة، وينقمون عليهم حظوتهم ونفوذهم لدى الخليفة، حتى اضطر المنصور ذات يوم، أن يصرح أمام سائر الموحدين، وقد بلغه موقفهم من الطلبة، " يا معشر الموحدين، أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيله، وهؤلاء الطلبة لا قبيل لهم سواى، فمهما نابهم أمر، فأنا ملجؤهم، وإلىّ فزعهم، وإلىّ ينتسبون ". يقول المراكشي، فعظم من ذلك اليوم أمر الطلبة، وبالغ الموحدون في برهم وإكرامهم (١).

وكان المنصور أديباً فصيحاً، جزل الألفاظ، وكان يجتمع حوله شعراء العصر من العدوتين، المغرب والأندلس، يصغى إلى مدائحهم، ويغمرهم بصلاته، وقد وضع له شاعره الأثير أبو العباس أحمد بن عبد السلام الجراوي كتابه الذي سماه " صفوة الأدب وديوان العرب " في مختار الشعر (٢). وانتشر هذا الديوان بين أهل المغرب انتشاراً عظيماً، وكان لديهم ككتاب الحماسة لأبي تمام عند أهل المشرق، وقد سبق أن أشرنا في غير موضع إلى قصائد الجراوى ومدائحه للمنصور، وأبيه الخليفة أبي يعقوب يوسف، في مختلف المناسبات، ْوكان من شعراء دولته أيضاً أبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن مُجْبَر المرسى الأندلسي، وقد أشرنا إلى مدائحه كذلك من قبل غير مرة، وقد ذكر لنا ابن خلكان أن مدائح ابن مُجبر للمنصور جمعت في ديوان، وأورد لنا منها قصيدة رقيقة في مطلعها:

أتراه يترك الغزلا ... وعليه شب واكتهلا


(١) المراكشي في المعجب ص ١٥٨.
(٢) ابن خلكان ج ٢ ص ٤٣٢ و ٤٩٤، وروض القرطاس ص ١٤٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>