للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كلف بالغيد ما عقلت ... نفسه السلوان مذ عقلا

وإلى جانب هذه الصفات العلمية والأدبية اللامعة، كان المنصور جواداً، وافر البذل، كثير الصدقات، وكان يقدر قيمة البذل في أسر النفوس وترويضها، وكان يؤثر بصلاته الوفيرة أجناد الغز (الأغزاز) والعرب الذين ينضمون لجيشه، استبقاء وتأكيداً لولائهم (١).

هذا وأما عن كفاية المنصور ومواهبه الإدارية والإنشائية، فلدينا من ذلك تفاصيل عديدة. فقد كان المنصور في الواقع من أقدر الخلفاء الموحدين في فهم شئون الدولة الإدارية وتنظيمها، وكانت ولايته لوزارة أبيه مدرسة درس فيها هذه الشئون خير دراسة. وفيها " بحث عن الأمور بحثاً شافياً، وطالع أحوال العمال والولاة والقضاة وسائر من ترجع إليه الأمور مطالعة أفادته معرفة جزئيات الأمور (٢). وقد رأيناه سواء في المغرب أو الأندلس يعكف على معالجة شئون الدولة بهمة، ويتقصى شئون الولاة والعمال. وكان يولى شئون الأندلس في ذلك عناية خاصة، ففي كل مرة يعبر فيها إلى شبه الجزيرة، يعنى إلى جانب أهباته للغزو، بتنظيم شئونها الداخلية، وفي سنة ٥٩٢ هـ، نراه بعد ظفره في معركة الأرك، يعنى خلال إقامته بإشبيلية، بمطاردة العمال المقصرين والمختلسين ومحاسبتهم، واستصفاء أموالهم، كما يعنى بتعيين غيرهم من الحائزين لثقته. ثم هو في نفس الوقت يولى شئون الدولة المالية اهتماماً خاصاً، ويندب لأعمال الجباية رجالا من ذوى الأمانة والنزاهة. وكان من أهم ما فعله المنصور في باب السياسة المالية، هو تغييره للدينار الموحدي، ومضاعفته لوزنه، حسبما أشرنا إلى ذلك في موضعه. وكذلك أبدى المنصور همة ظاهرة في إقامة المنشآت العمرانية العظيمة، فأنشأ لأول عهده ضاحية الصالحة الملوكية في جنوبي مراكش، فوق البسيط الممتد بين باب أغمات شرقاً وباب الشريعة غرباً، فجاء إنشاؤها دليلا على ما كانت تجيش به نفسه من إظهار أبهة الملك وروعته، على مثل ما كان عليه خلفاء الأندلس، وعنى بتوسيع مدينة رباط الفتح، التي كان قد اختطها جده فأبوه وتجديد قصبتها، وإتمام أسوارها وأبوابها، واستكمال أحيائها ومبانيها. وأنشأ


(١) المراكشي في المعجب ص ١٦٣، والبيان المغرب - القسم الثالث ص ٢٠٨.
(٢) المعجب ص ١٤٨، ونقله ابن خلكان ج ٢ ص ٤٢٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>