لما دب بينهما من عوامل التنافس والحسد، وفكر ابن عبد الكريم في محاربته ومحاصرته، وهو يومئذ بقابس، فاستخلف على المهدية ولده عبد الله وسار إلى قابس، ولكنه لما أشرف عليها بجموعه هالته منعتها، فارتد منها إلى قفصة واستولى عليها. وعندئذ خرج الميورقي من قابس لمطاردته ومحاربته، فخرج ابن عبد الكريم بقواته من قفصة، والتقى الفريقان في مكان يعرف بقصور لالة، فهزم ابن عبد الكريم، وفر إلى المهدية ناجياً بنفسه، وتبعه إليها من نجا من فلوله، واحتوى الميورقي على معسكره وجميع أسلابه. وكان ذلك في بداية سنة ٥٩٧ هـ. وأراد الميورقي أن يقضى نهائياً على خصمه، وأن ينتزع منه المهدية، فبعث إلى السيد أبي زيد بتونس يسأله المهادنة والسلم، ويطلب منه أن يعينه بعدة سفن يستطيع بها محاصرة المهدية من البحر، والقضاء على ابن عبد الكريم. وكان السيد أبو زيد يتوق إلى التخلص من هذا الثائر الذي استفحل أمره، فبعث إلى الميورقي سفينتين، فعندئذ أدرك ابن عبد الكريم أنه لا مفر من التسليم، وبعث إلى الميورقي ولده عبد الله يعرض التسليم على أن يؤمن في نفسه وماله، فأجابه الميورقي إلى ذلك، وخرج ابن عبد الكريم وولده من المهدية وتوجها إلى الميورقي للسلام عليه، فلما رآهما أمر في الحال بالقبض عليهما متفرقين، واستولى على المهدية وعلى سائر ما كان بها لابن عبد الكريم من الأموال والذخائر. ثم زج بابن عبد الكريم وولده إلى السجن ولم تمض أيام قلائل حتى أخرج ابن عبد الكريم ميتاً من سجنه، ثم أخرج ولده عبد الله وحمل إلى السفينة، بزعم إرساله إلى ميورقة، ولكن السفينة ما كادت تصل إلى مقربة من قسنطينة، حتى ألقى به مكبولا إلى البحر، فابتلعته المياه (١).
وهكذا بسط يحيى بن إسحاق الميورقي حكمه على سائر إفريقية، ما عدا شاطئها الشمالي، واستولى على سائر قواعدها، طرابلس وقابس وصفاقس والمهدية والقيروان وسائر بلاد الجريد، ووصلت دعوته إلى بونة ولم يبق بيد الموحدين منها سوى تونس وبجاية وقسنطينة، وقد أصبحت كذلك في خطر السقوط. وبينما كان السيد أبو زيد والي إفريقية، ما يزال يعتقد أن الميورقي يرغب حقاً في السلم، وأنه ينوى أن يضع حداً لأعماله العدائية، إذا بالميورقي
(١) نقلنا هذه التفاصيل عن رحلة التجاني، وهي فيما يبدو أوثق الروايات عن هذه الحوادث ص ٣٥٢ - ٣٥٤. وراجع ابن خلدون في كتاب العبر ج ٦ ص ١٩٤ و ١٩٥، وهو فيما يرجح، ينقل عن التجاني.