للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأموي الجامع بقرطبة، وكان موضعه كنيسة قوطية قديمة، وجلب إليه الأعمدة الفخمة والرخام المنقوش بالذهب واللازورد. ولكنه توفي قبل إتمامه، فأتمه ولده هشام، وزاد فيه من بعده ملوك بني أمية، حتى غدا أعظم مساجد الأندلس، وبلغ ما أنفقه عليه الداخل وحده زهاء مائة ألف دينار (١). وأنشأ عبد الرحمن أيضا في قرطبة داراً للسكة، تضرب فيها النقود على نحو ما كانت تضرب في دمشق أيام بني أمية وزناً ونقشاً.

- ٣ -

وكان عبد الرحمن الأموي جواداً، جم البساطة والتواضع، يؤثر لبس البياض ويعتم به، يصلي بالناس أيام الجمع والأعياد، ويحضر الجنائز ويصلى عليها، ويعود المرضى، ويزور الناس ويخاطبهم، ولم ينحرف عن هذه الديمقراطية إلا في أواخر عهده، حينما نصحه بعض خاصته بالترفع، استبقاء لهيبة الملك، والحذر من بوادر العامة وشر المتآمرين (٢). وقد كان في نقش خاتمه " عبد الرحمن بقضاء الله راض " و" وبالله يثق عبد الرحمن وبه يعتصم " ما ينم عن ذلك التواضع الجم (٣)، حيث لم يتخذ لقب المظفر أو الناصر أو المنصور وما إليها.

بقي أن نتحدث عن ناحية أخرى من خلال عبد الرحمن البديعة، هي الناحية الأدبية. كان عبد الرحمن شاعراً جيد النظم، ناثراً فصيح البيان، قوى الترسل، عالماً بالشريعة، وكان يعتبر من أعظم بني مروان مكانة في البلاغة والأدب (٤). وقد انتهت إلينا بعض رسائله وفيها تبدو قوة بيانه وفيض بلاغته. ومن ذلك رسالة موجزة وجهها إلى سليمان بن يقظان حين خروجه عليه: " أما بعد، فدعني من معارض المعاذير، والتعسف عن جادة الطريق، لتمدن يداً إلى الطاعة، والاعتصام بحبل الجماعة، أو لألقين بناتها على رصف المعصية، نكالا بما قدمت يداك، وما الله بظلام للعبيد ". ومنها رسائله إلى بدر مولاه، يزجره عن تمرده وانحرافه وقد كتب إليه حين ألحف في طلب العفو والمنة: " لتعلم أنك لم تزل بمقتك حتى


(١) نفح الطيب ج ١ ص ١٥٥، والبيان المغرب ج ٢ ص ٦٠.
(٢) نفح الطيب ج ٢ ص ٦٧.
(٣) البيان المغرب ج ٢ ص ٥٠، ونفح الطيب ج ٢ ص ٧٦.
(٤) البيان المغرب ج ٢ ص ٦٠ و٦٢؛ ونفح الطيب ج ٢ ص ٦٩؛ والمراكشي في المعجب ص ١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>