للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأعراب وفسادهم. وبالعكس عومل العرب الذين وقفوا إلى جانب الموحدين بالرعاية والإحسان، ووزعت عليهم أراض شاسعة خصبة في وادي القيروان. وكان أهل جبال نفوسة قد أرهقهم ابن عصفور نائب يحيى بجوره، وأثقل كاهلهم بالمظالم والفروض، فما كادت تقع الهزيمة على الميورقي، حتى وثبوا بابن عصفور فقتلوه ومعاونيه من المرابطين، كما قتلوا ولدين ليحيى.

وعكف أبو محمد بعد نصره الحاسم على معالجة شئون إفريقية، بما عرف عنه من الحزم والبراعة، فقمع كل صنوف الفساد والشغب، ووطد دعائم السكينة والنظام، واستوفى فروض الجباية من سائر الطوائف، فازدهرت في ظله بلاد إفريقية، وعمها الأمن والرخاء، وذاع اسم أبي محمد، واشتهر أمره، وسمت مكانته، حتى غدا ثانى رجل في الدولة بعد الخليفة ذاته، وكان العمل الذي اضطلع به ونجح في تحقيقه، وهو إخماد ثورة بني غانية، وتحرير إفريقية من نيرهم، وردها إلى سلطان الموحدين، وذلك في فترة يسيرة لا تتجاوز خمسة أعوام أو ستة، من أعظم الأعمال العسكرية والسياسية، التي استطاعت الدولة الموحدية أن تقوم بها في مدى ربع قرن، مذ نزل بنو غانية بإفريقية لأول مرة. ولم يكن ذلك عملا هيناً ولا ميسوراً إزاء ما كان يتصف به علي بن غانية وأخوه يحيى، وبقية هذه العصبة، من الجرأة والبسالة وشدة المراس. وكان توطيد سلطان الموحدين بإفريقية على هذا النحو، عمل إنقاذ وقى الدولة الموحدية كثيراً من أخطار التمزق والتفكك، التي كانت تتعرض لها، من جراء تغلب بني غانية على جزء من أهم أراضي الدولة، وعجزها عن رد عدوانهم. واستمر أبو محمد بن أبي حفص عدة أعوام أخرى حتى وفاته في سنة ٦١٨ هـ (١٢٢١ م) يسيطر على مصاير إفريقية، ويسهر على سلامتها وأمنها، ويوطد شئونها بمقدرة فائقة، فهل كان عندئذ يضمر أو يدور بخلده أنه إنما يمهد بهذا التوطيد لسلطان عقبه، وتأسيس أسرته الملوكية المستقلة، التي قامت بعد ذلك بقليل، في هذا القطر من أقطار الإمبراطورية الموحدية؟ (١).

أما يحيى بن غانية فقد لبث بعد نكبته الأخيرة في جبل نفوسة، ملتجئاً مع فلوله إلى الصحراء الجنوبية، يلوذ مؤقتاً بأهداب السكينة، ويرقب الحوادث. بيد أنه لم يمض قليل على ذلك، حتى انفصل عنه أخوه سير بن إسحاق بن غانية،


(١) ابن خلدون ج ٦ ص ٢٧٩. وراجع أيضاً A. Bel: Les Benou Ghania, p. ١٥٢ - ١٥٤

<<  <  ج: ص:  >  >>