للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قدر البين بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفوني غمضى

قد قضى الله بالفراق علينا ... فعسى باجتماعنا سوف يقضى

ورأى بروض الرصافة وهي الضاحية الجديدة التي أنشاها، نخلة منفردة، فأثار منظرها في نفسه ذكرى وشجناً وأنشد (١):

تبدت لنا وسط الرصافة نخلة ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل

فقلت شبيهي في التغرب والنوى ... وطول التنائي عن بنيي وعن أهلي

نشأت بأرض أنت فيها غريبة ... فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي

سقتك غوادي المزن من صوبها ... الذي يسح ويستمرىء السماكين بالويل (٢)

- ٤ -

هذا ويجب أن نستعرض هنا، وقبل اختتام الكلام على عصر عبد الرحمن الداخل، عناصر المجتمع الأندلسي، الذي كان خلال هذه الأحداث والخطوب التي توالت عليه منذ أيام الفتح، قد استقر، وأخذت جذوره في التوطد والرسوخ، وأخذت عناصره المختلفة، يؤدى كل منها دوره في غمرة الحوادث، مستهديا بعواطفه وأمانيه ومثله الخاصة.

وقد سبق أن أشرنا بإيجاز إلى أن المجتمع الإسلامي الذي قام في شبه الجزيرة عقب الفتح، كان يتألف من عناصر رئيسية ثلاثة، هي العرب، والبربر، والمولدون. كما أشرنا إلى عناصر الشقاق والتفرق التي كانت تعمل في صفوف هذا المجتمع الإسلامي الجديد.

كانت البطون العربية التي اشتركت في الفتح، واستقرت في شبه الجزيرة تضطرم منذ البداية بروحها القبلي المتأصل، ولم تستطع قط أن تتحرر من هذا


(١) وينسب هذا الشعر أيضا لعبد الملك بن بشر بن عبد الملك بن مروان، وكان من الداخلين إلى الأندلس (راجع الحلة السيراء ص ٣٤).
(٢) يورد ابن الأبار في هذا الموطن رواية يفهم منها أن هذه النخلة هي أول نخلة غرست بالأندلس، ومنها تولد جميع النخيل بالأندلس فيما بعد، وإذا فيكون عبد الرحمن الداخل هو أول من نقل غراس النخيل بالأندلس فيما نقل من غراس الشام إلى الرصافة (الحلة السيراء ص ٣٥). ولكن يحق لنا أن نلاحظ أن العرب فتحوا الأندلس قبل ذلك بنحو ثمانين عاما، ومن قبلها فتحوا إفريقية؛ ومن المعقول أن يكون النخل قد نقل إليها فيما نقلوا من غراس بلادهم؛ وقد نقلوه قبل ذلك إلى مصر منذ الفتح. وإذا كان النخيل قد غرس بإفريقية عقب افتتاحها، أفلا يكون من المرجح أنه قد نقل منها إلى الأندلس عقب افتتاحها أيضا؟ وقد كان أول ما عنى به العرب في الأندلس تنظيم الزراعة وغرس الحدائق.

<<  <  ج: ص:  >  >>