للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولو حاول ذلك لكان من المحقق أن يفوز ببغيته، في تلك الظروف التي انهار فيها خط الدفاع الأمامى بالأندلس. ولكن مصاعب التموين كانت تتفاقم، وقد سادت الفوضى بين جنود الجيش الظافر، الذين امتلأت أيديهم بالغنائم، ثم كانت الطامة بانتشار الوباء بينهم من جراء اشتداد الحرارة، وتعفن الجثث التي غصت بها تلك الوديان، فارتد الملوك النصارى في قواتهم نحو الشمال، ودخلوا طليطلة عاصمة قشتالة في موكب ملوكى ضخم، وأقيمت صلوات الشكر ابتهاجاً بالنصر، وتقرر أن يغدو يوم ١٦ يوليه، وهو اليوم الذي تحقق فيه النصر، عيداً قومياً يحتفل به في طليطلة وسائر أنحاء قشتالة، ويسمى عيد " ظفر الصليب ".

هذا وأما الخليفة الناصر لدين الله، فإنه بعد أن فر من ميدان المعركة في آخر لحظة، حسبما أشرنا من قبل، سار إلى جيّان ثم غادرها مسرعاً إلى إشبيلية فوصلها في أيام قلائل، في أواخر شهر صفر سنة ٦٠٩ هـ، ووجه منها كتابه بالاعتذار عن الكارثة، إلى قواعد المغرب والأندلس. ولبث مقيما بإشبيلية حتى شهر رمضان من هذا العام، وهو لا يحرك ساكنا ولا يبالى بأمر، ثم عبر البحر إلى العدوة، قافلا إلى حضرة مراكش، وما كاد يستقر بها حتى أخذ البيعة بولاية العهد لولده السيد أبي يعقوب يوسف الملقب بالمستنصر، فبايعه كافة الموحدين، وخطب له على جميع المنابر بالمغرب والأندلس، وذلك في أواخر شهر ذي الحجة سنة تسع وستمائة. ثم لزم الناصر بعد ذلك قصره، واحتجب عن الناس. يقول صاحب روض القرطاس: " وانغمس في لذاته، فأقام فيه مصطبحاً ومغتبقاً " أي صباح مساء. وفي أوائل شهر شعبان سنة ٦١٠ هـ، مرض الناصر، وتوفي في مساء يوم الأربعاء العاشر من شعبان (٢٢ ديسمبر سنة ١٢١٣ م) (١). وقد اختلف في أسباب وفاته، فقيل إنه توفي غما وألماً من آثار نكبته في العقاب (٢). وقيل إنه توفي من عضة كلب (٣)، وقيل إنه مات مسموماً، بتدبير بعض وزرائه، ممن خشوا من نقمته وانتقامه، لما بلغه عنهم من سوء فعلهم ودسائسهم، فأغروا


(١) اختلف في يوم وفاته، فذكر إنه اليوم الخامس من شعبان أو اليوم العاشر (النويري - طبعة ريميرو ج ٨ ص ٢٨٠)، وذكر أنه اليوم الحادي عشر (روض القرطاس ص ١٦٠). ولكن المراكشي وهو أقرب من عاصره يضع تاريخ وفاته في يوم الأربعاء العاشر من شعبان (المعجب ص ١٨٤).
(٢) الروض المعطار ص ١٣٨.
(٣) الحلل الموشية ص ١٢٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>