للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الإسبانية في الهضاب الشمالية، بعد أن سحقت في موقعة شريش، فقد لجأت شراذم قليلة من القوط عقب الفتح إلى الجبال الشمالية، وامتنعت في مفاوز جبال أشتوريش (أستورية)، وقامت إمارتان نصرانيتان صغيرتان في كانتابريا وجلِّيقية. وكانت إمارة كانتابريا التي أسسها الدوق بتروس، لوقوعها في الطرف الغربي من جبال البرنيه في سهول نافار وبسكونية، عرضة لاقتحام الفاتحين لها حين سيرهم إلى فرنسا وحين عودهم منها. ولكن إمارة جلِّيقية Galicia، كانت تقع في أعماق جبال أشتوريش الوعرة، بعيداً عن غزوات الفاتحين، وسميت جليقية لأنها قامت على حدود الولاية الرومانية القديمة التي كانت تسمى بهذا الإسم. ففي هذه الهضاب النائية المنيعة اجتمع بلايو وصحبه، وعددهم لا يتجاوز بضع مئات حسبما تقول الرواية، ولجأوا إلى مغار عظيم في آكام كوفادنجا، تحيط به وديان سحيقة خطرة، ويعرف في الرواية الإسلامية باسم (الصخرة) (١). ويقول لنا ابن خلدون في الفصل الذي يخصصه (لملوك الجلالقة)، إن هذه الإمارة الصغيرة التي كانت مهد المملكة النصرانية، لا تمت بصلة إلى القوط، وإن ملوك الجلالقة ليسوا من القوط، لأن أمة القوط كانت قد بادت ودثرت لعهد الفتح الإسلامي (٢). بيد أنه يصعب علينا أن نقبل هذا الرأي على إطلاقه، فمن المحقق أن فلول النصارى التي لجأت إلى الشمال كانت مزيجاً من القوط والإسبان المحليين، ولكن الظاهر مما انتهى إلينا من أقوال الروايتين المسلمة والنصرانية، أن الزعماء ولاسيما بلاجيوس كانوا من القوط، وأن ملوك الجلالقة يمتون إلى القوط بأكبر الصلات.

ولم يعن المسلمون لأول عهد الفتح بأمر هذه الشراذم الممزقة عناية كافية. وكان فاتحا الأندلس موسى وطارق، قد قاد كل منهما حملة إلى جليقية لسحق البقية الباقية من فلِّ القوط، ولكنهما لم يتمكنا من تحقيق غايتهما لاستدعائهما إلى دمشق كما أسلفنا. وكان إغفال أمر هذه الفلول الباقية بعد ذلك من أعظم أخطاء الفاتحين. بيد أنه لما كثرت ثورات النصارى في الشمال، وبالأخص في بسكونية (أو بلاد البشكنس)، اهتم ولاة الأندلس بقمعها وتأمين الولايات الشمالية،


(١) نفح الطيب ج ٢ ص ٥٧.
(٢) ابن خلدون ج ٤ ص ١٧٩، وهو يعارض هنا رأي ابن حيان في أن المملكة النصرانية يرجع أصلها إلى القوط.

<<  <  ج: ص:  >  >>