ابن الأحمر، لم يبق من قواعدها الكبرى دون فتح، سوى مدينة إشبيلية العظيمة وأحوازها، والقواعد القريبة منها في الشرق والغرب والجنوب.
كانت إشبيلية بعد قرطبة، هي التي تجذب عندئذ أنظار ملك قشتالة، وأنظار الأحبار وجماعات الفرسان النصارى، وهم الذين كانوا يفوزون من غنائم المدن المفتوحة، بأعظم قسط. ولكن إشبيلية لم تكن هدفاً سهل المنال، ولم تكن مثل قرطبة مجردة من وسائل الدفاع، وكانت خطوطها الدفاعية الأمامية، ماتزال تدعمها طائفة من القواعد والحصون القوية، التي كان لابد من إخضاعها قبل الإقدام على منازلة إشبيلية ذاتها.
وكانت إشبيلية مذ عمت الفتنة أرجاء الأندلس، وتوالت الثورة ضد الموحدين في مختلف القواعد، تتولى مصايرها بنفسها، وترسم لنفسها خطة قيادتها وحكمها. وكانت باعتبارها أعظم حواضر الأندلس في ذلك العصر، وباعتبارها مركز الحكم الموحدي بالأندلس، تتخذ مركز القيادة في تصرفاتها واتجاهاتها، وقد لبثت تحتفظ بهذه الصفة، حتى قيام أبي العلى المأمون بها، واتخاذه لقب الخلافة، وذلك في سنة ٦٢٤ هـ، ثم مغادرته لها ليعبر إلى العدوة، وذلك في أواخر سنة ٦٢٦ هـ (أواخر سنة ١٢٢٨ م).
ولما قام ابن هود بثورته في شرقي الأندلس، وبزغ نجمه، وأطاعته معظم القواعد الشرقية والوسطى، خلعت إشبيلية طاعة الموحدين، ونادت بطاعته، وولي عليها أخاه عماد الدولة. ولكن أهل إشبيلية لم يلبثوا طويلا على طاعته، فنكثوا ببيعته، وأخرجوا أخاه من المدينة، والتفوا حول قاضيهم ابن مروان الباجى، وذلك في سنة ٦٢٩ هـ. ولما قوي أمر ابن الأحمر أمير جيان يومئذ في المنطقة الوسطى، واشتدت المنافسة بينه وبين ابن هود، تفاهم ابن الأحمر مع الباجى، وتحالف الإثنان على قتال ابن هود، وهزماه على مقربة من إشبيلية (٦٣١ هـ)، ودخل ابن الأحمر إشبيلية، وغدر بحليفه الباجى، ودس عليه من قتله، فثار به أهل إشبيلية، وأخرجوه منها، ونادوا بطاعة ابن هود مرة أخرى.
ولما توفي ابن هود في أوائل سنة ٦٣٥ هـ، وانهارت بوفاته دعوته في معظم القواعد، رأى أهل إشبيلية أن يعودوا إلى طاعة الدولة الموحدية. وكان زعيمهم عندئذ الفقيه أبو عمرو بن الجد، وهو حفيد الحافظ الشهير أبي بكر بن الجد، وبعث أهل إشبيلية بدعوتهم وفداً إلى الخليفة الرشيد بمراكش، وقدموا للولاية عليهم