للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على أن الاستيلاء على طريانة لم يكن مهمة سهلة. ذلك أن المسلمين كانوا على حذر، وكانوا يدركون أهمية طريانة الدفاعية، وكانوا لذلك قد شحنوها بالرجال والسلاح والمؤن، ورتبوا بها بالأخص جماعة من الرماة يستطيعون إصابة الفرسان بقذائفهم عن بعد. ومن ثم فإنه لما هاجمها النصارى بقوات كثيفة استطاعت حاميتها القوية أن تحطم هذا الهجوم الأول بسرعة، وعندئذ كرر النصارى هجومهم بشدة، والمسلمون يحبطون كل محاولة، وكان بالقلعة عندئذ زعيم إشبيلية الأول القائد شقاف. ولما تكرر فشل النصارى في اقتحام القلعة اقترب منها فرناندو بقواته، ودفع الحفارين إلى السور لإحداث ثلمة به، ولكن المسلمين نجحوا أيضاً في إحباط هذه المحاولة، وعندئذ عمد النصارى إلى محاصرة القلعة براً وبحراً، وضربها بمختلف الآلات، واعتزموا أخذها بالحصار، وقدمت سفنهم إلى النهر أسفل القلعة فنجحت بعد مجهود عنيف في قطع كل صلة بين طريانة وبين إشبيلية.

واستمر الحصار حول إشبيلية وطريانة، وهو يشتد كل يوم، والحاضرة المحصورة تشعر بالضيق، يرهقها شيئاً فشيئاً، والنصارى يوالون ضربها بالآلات المخربة، حتى نفدت الأقوات، وأخذ الجوع يفتك بالمحصورين. ويصف ابن عذارى حالة المدينة المحصورة في قوله: " وعدموا المرافق كلها، قليلها وجليلها، إلا ما كان في بعض ديار الأغنياء مثل الفقيه القاضي ابن منظور، فإنه كان يطمع في إقلاع النصارى عن المدينة، فيأمر الناس بالقتال والرمى بالنبال، والناس مع ذلك حيارى، يمشون سكارى وما هم بسكارى. ومات بالجوع خلق كثير، وعدمت الأطعمة من القمح والشعير، وأكل الناس الجلود، وفنيت المقاتلة من العامة وأصناف الجنود " (١). وهكذا فتك الجوع والحرمان والمرض بأهل إشبيلية، وأضنتهم المعارك المستمرة بعد حصار صارم مرهق استمر خمسة عشر شهراً، وغاض كل أمل في الإنقاذ والإنجاد، فلم يتحرك الموحدون لانشغالهم بمكافحة بني مرين، وأمير إفريقية الذي اتخذ لقب الخلافة، ولم يتحرك أمير إفريقية لما سبق من موقف الإشبيليين نحو عماله، وربما أيضاً اعتباراً بما حدث من فشل محاولته لإنقاذ بلنسية، وقد كان إنجادها أقرب وأيسر. فلما بلغ الضيق أشده، طلب القائد شقاف وهو في طريانة، إلى النصارى هدنة ليتمكن


(١) البيان المغرب ص ٣٨١ و ٣٨٢

<<  <  ج: ص:  >  >>