للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

- ٢ -

على أن الأمر لم يكن كذلك في الواقع. ذلك أن الدولة الموحدية لم تكن عندئذ سوى بقية هزيلة مما كانت عليه. ولم يكن سلطان الخليفة الموحدي يتعدى يومئذ أحواز العاصمة الموحدية - مراكش - وما إليها، وكانت أطرافها قد قصت من كل ناحية، ففضلا عن انسلاخ إفريقية، وقيام دولة بني حفص المستقلة بها، فقد غلب بنو مرين على معظم الأنحاء الشمالية الشرقية، ولبثت طوائف العرب، ولاسيما عرب الخلط، مسيطرة على الأنحاء القريبة من العاصمة، واستقر يحيى المعتصم مع فلوله في قطاع سجلماسة. ومن جهة أخرى، فقد كان لمقتل مسعود ابن حميدان زعيم الخلط، نتائج بعيدة المدى. ذلك أن طوائف الخلط هاجت وماجت، وأزمعت الانتقام، واختارت لزعامتها يحيى بن هلال بن حميدان، واضطرمت كلها بنار الفتنة، وانتهز ابن وقاريط تلك الفرصة، ليضع يده مع الخلط، وليذكى فيهم ظمأ الانتقام والعيث، وكان منذ هزيمته في هزرجة، قد لبث إلى جانب يحيى المعتصم. واستنفر الخلط سائر حشودهم، فاجتمعت منهم جموع غفيرة، وانضم إليهم يحيى وابن وقاريط بقواتهما، وزحفت الجموع المشتركة على مراكش، وعاثت في أحوازها، وانتسفت الزروع والرياض والبحائر القريبة، وضربت المدائن والقرى، وانقطعت المؤن والأمداد عن الحضرة، واشتد بها الضيق، وأخذ الجند في التسلل إلى الخلط، فعندئذ رأى الرشيد أن يدفع بقواته لمقاتلة المهاجمين، فخرج غنصالة، (كونثالو) قائد الروم في فرسانه، ومعه جند الرشيد، إلى وادي تانسيفت، حيث اجتمع الخلط وهسكورة، وكان معه أيضاً عبد الصمد بن يلولان الهسكورى، خصم ابن وقاريط الألد في جمع من أنصاره، ونشب بين الفريقين قتال عنيف، وقاتل الروم ومن معهم بمنتهى الشجاعة، ولكن تكاثرت عليهم الخلط وهسكورة وفتكت بهم، فهزموا هزيمة شديدة، وارتدت فلولهم عند دخول الليل إلى المدينة، فأغلقت أبوابها، وساد بها الاضطراب والفزع، وزاد الضيق وعدمت الأقوات، وانهارت هيبة الخلافة والخليفة، وأخذت الأمور تنذر بأخطر العواقب (٦٣٢ هـ - ١٢٣٤ م) (١).

وعندئذ اقترح الموحدون على الرشيد، صونا للمدينة، وانقاذاً لها من الحصار والخراب، وانقاذاً لأهلها من الهلاك والأسر، أن يغادرها الرشيد، وأن يلجأ


(١) البيان المغرب ص ٣٠٧ و ٣٠٨، وابن خلدون ج ٦ ص ٢٥٥

<<  <  ج: ص:  >  >>