على مكناسة، وهي لا تبعد عن فاس عاصمة الإمبراطورية الثانية، سوى مسافة يسيرة، ومن ثم فإنه كان لزاما على الخليفة الموحدي أن ينهض بقوة وعزم، لتدارك هذا الصدع الذي ينذر بانهيار الدولة كلها. وهذا ما فعله السعيد، فإنه مذ ولى الخلافة، لم يكن غافلا عن خطورة الموقف، وكان منذ البداية يرقب الفرصة للعمل، لإنقاذ الدولة، من عدوان الخارجين عليها، وكان الزحف على إفريقية ذاتها، مما يدخل في برنامجه، فاستنفر الموحدين والمصامدة، وسائر القبائل والروم والأغزاز، ووافاه كانون بن جرمون في قومه سفيان، وكان قد عاد إلى الطاعة، ووافته جشم وغيرها من طوائف العرب، واجتمعت له حشود عظيمة، يضيق لها الفضاء، وخرج من مراكش في شهر ذي الحجة سنة ٦٤٥ هـ (أبريل سنة ١٢٤٨ م) وسار حتى نزل بوادي تانسيفت وقد اهتزت بلاد المغرب لحركته، وكانت خطته تقضى، أولا بمحاربة بني مرين، وإجلائهم عن أقطار المغرب الوسطى، ثم السير إلى تلمسان وافتتاحها، من أيدي بني عبد الواد، ثم السير بعد ذلك إلى مقاتلة بني حفص، وانتزاع إفريقية منهم. وسار السعيد في قواته بعد ذلك صوب الشمال الشرقي، حتى وصل إلى وادي ملوية ورباط تازة، ونزل قبالة منازل بني مرين. ولما وقف الأمير أبو يحيى زعيم بني مرين، على حركة السعيد، وشهد بنفسه ضخامة الجيوش الموحدية، وأدرك أنه لا قبل له بها، آثر السلم والتهادن، ونزل له عن البلاد والجهات التي احتلها بنو مرين، وارتد بحشوده نحو بلاد الريف، وذلك بعد أن عقد مع السعيد صلحاً، يتعهد فيه بأن يمده بفرقة من عساكر بني مرين، في حربه ضد أميرى تلمسان وإفريقية (١).
واقترب السعيد بحشوده، بعد ذلك، من مدينة مكناسة، فخرج إليه أهلها، وقد قدموا أمامهم أولادهم يحملون المصاحف، والتمسوا إليه العفو والغفران، مما حدث، فعفا عنهم وأمنهم. ومما هو جدير بالذكر ما يقصه علينا ابن عذارى، من أن أهل مكناسة، لما سمعوا عقب عقدهم البيعة لأمير إفريقية، من تأهب السعيد للحركة نحو بلادهم، بعثوا إليهم صلحاءهم وعلماءهم، يعتذرون ويستغفرون، وبعثوا معهم بيعة جديدة للخليفة السعيد، مدبجة بقلم الكاتب ابن عبدون، وهو يورد لنا نص هذه البيعة، مؤرخة في تاسع عشر ذي الحجة
(١) الذخيرة السنية ص ٧٦ و ٧٧، والبيان المغرب ص ٣٨٦ و ٣٨٧، وابن خلدون ج ٧ ص ١٧٢