وفي مقدمتهم القاضي أبو عبد الرحمن المغيلى، وابن جشار وأخوه ابن أبي طاهر وغيرهم، وأمر بقتلهم، وعلقت رؤوسهم على أبواب المدينة (رجب ٦٤٨ هـ)، وألزم أهل المدينة، ومن بقى من شيوخهم، برد المال المنهوب، وساد على المدينة حكم إرهاب، خشعت له القلوب، وأخمدت كل نزعة إلى الفتنة والخروج (١).
- ٢ -
وفي تلك الأثناء توفي عاهل إفريقية، الأمير أبو زكريا يحيى ابن الشيخ أبي محمد عبد الواحد الحفصى، وكان حينما وقع مصرع الخليفة السعيد، قد أخذ في الأهبة، لتحقيق ما كان يجيش به من أطماع، نحو الأقاليم المغربية، وخرج في جيشه من تونس، في أوائل سنة ٦٤٧ هـ. فلما وصل إلى بلدة العناب على مقربة من بونة أصابه مرض مفاجىء، واشتد به حتى توفي، وذلك في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة ٦٤٧ هـ (١٢٤٩ م)، وكان في التاسعة والأربعين من عمره. وكان أميراً عظيماً وافر الشجاعة والمقدرة والعزم، وهو الذي أنشأ الدولة الحفصية المستقلة بإفريقية، حسبما ذكرنا من قبل في موضعه، وكان فوق ذلك عالما أديبا، مجيداً للنثر والنظم، محباً للعلماء، مؤثراً لهم، وقد وفد عليه كثير من علماء الأندلس وأدبائها النازحين منها، حينما تغلب النصارى على قواعد الأندلس، وكان في مقدمة هؤلاء الفقيه الكاتب المؤرخ والشاعر الكبير ابن الأبار القضاعي.
ولما توفي أبو زكريا بويع ولده أبو عبد الله محمد بتونس، وتلقب بالمستنصر بالله، وهو الذي لقى ابن الأبار مصرعه على يديه، حسبما نفصل ذلك في ترجمته.
وكان لوفاة عاهل إفريقية، صدى فيما أصاب البقية الباقية من مسلمي صقلية، من اضطهاد وتشريد. وكانت الأقلية المسلمة، قد لبثت عصراً، بعد افتتاح النورمانيين للجزيرة، عنصراً من أهم عناصر سكانها، وأوفرهم تقدما وحضارة، يتمتعون في ظل الملك رجّار فاتح الجزيرة، وخلفائه الأوائل، بقسط كبير من الرعاية والحرية، ولكنهم غدوا بعد ذلك موضع الاضطهاد والمطاردة. وقد سبق أن أشرنا فيما تقدم، إلى ما كانت عليه أحوالهم، وأوردنا طرفا مما ذكره عنها الرحالة ابن جبير، وأشرنا إلى ما كان من وفود بعض أعيانهم على الشيخ أبي محمد الحفصى والي إفريقية، في نحو سنة ٦٠٥ هـ، سعياً إلى الاستنصار بعون
(١) ابن خلدون ج ٧ ص ١٧٥، والذخيرة السنية ص ٨٤، والبيان المغرب ص ٣٩٥، وروض القرطاس ص ١٩٧