وتنافس هذين الزعيمين، كل في بسط سلطانه، وفي مصانعة ملك قشتالة وغلبة التفكك والفوضى على شئون الأندلس: كانت هذه الظروف كلها تفسح مجالاً طيباً لنشاط فرناندو ومحاولاته العدوانية ضد الأندلس. ففي سنة ١٢٣٠ م، غزا فرناندو منطقة أندوجر وجيان، وتوغل في جنوب الأندلس. وفي سنة ١٢٣٣، غزا أحواز قرطبة وإشبيلية وعاث فيها. وفي نفس هذا العام حاصر مدينة أبدة واستولى عليها. وكان من الواضح أن تضعضع قوي الأندلس، وما يمزقها من المعارك الأهلية، يفسح لأطماع فرناندو أعظم مجال. ومن ثم فإنا نراه، بعد ذلك بعامين يستولي على قرطبة عاصمة الخلافة القديمة، وذلك في شوال سنة ٦٣٣ هـ (يونيه ١٢٣٦ م) ثم يستولي على سائر المدن والحصون القريبة منها، مثل إستجة والمدور وإشتبة وغيرها. ثم نرى ابن هود، وابن الأحمر كل يسعى إلى مصانعته والانضواء تحت لوائه. ولما توفي ابن هود في سنة ٦٣٥ هـ (١٢٣٧ م) وخلصت القواعد الجنوبية، غرناطة ومالقة وألمرية لابن الأحمر، كان فرناندو الثالث يلقى بكل ثقله ضد هذا الزعيم الأندلسي، خشية أن تلتف حوله كل القوي الباقية في الأندلس، فيغدو حجر عثرة ضد مشاريعه، ومن ثم نراه يكرر غزواته للأندلس الوسطى التي نشأ فيها ابن الأحمر، وبها موطنه ومثوى أسرته، أرجونة، ونراه يدفع غزواته جنوبا حتى غرناطة ذاتها، ونرى ابن الأحمر نزولا على هذا الضغط الخطير، يضطر إلى عقد الصلح مع ملك قشتالة، وإلى الاعتراف بطاعته، وإلى أن يسلمه مدينة جيان، وعدة كبيرة أخرى من القواعد والحصون (٦٤٣ هـ - ١٢٤٦ م)، وذلك كله حسبما فصلناه في مواضعه ولا حاجة بنا إلى تكراره. على أن أعظم أعمال فرناندو الثالث، هو افتتاحه لمدينة إشبيلية أعظم حواضر الأندلس، وذلك في سنة ١٢٤٨ م (٦٤٦ هـ)، ولم يكن فتح إشبيلية أمراً هيناً كفتح قرطبة، ولكنه كان محاولة عسكرية وبحرية ضخمة، قاومتها الحاضرة الإسلامية العظيمة، بمنتهى البسالة، وصمدت للحصار المرهق خمسة عشر شهراً، قبل أن تستسلم إلى قدرها المحتوم. وقد فصلنا أطوار هذه المأساة كلها في الفصل الذي خصصناه لذلك (١). وفتح إشبيلية هو الذي أسبغ على فرناندو الثالث أروع آيات مجده، الذي تطنب الروايات القشتالية في الإشادة به.
وقد سقطت على أثر افتتاح إشبيلية، في أيدي القشتاليين، سائر القواعد الواقعة في