للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي أواخر عهد الحكم اضطرمت بقرطبة ثورة خطيرة كادت أن تزعزع عرشه، وكان الشعب القرطبي ينقم على الأمير طغيانه وصرامته وكبرياءه، وكان بين أهل قرطبة كثير من " المولدين " الذين يبغضون السلطة الحاكمة، لشعورهم بنقص في مركزهم الإجتماعي وفي حقوقهم العامة، وكان الفقهاء من جهة أخرى، وفي مقدمتهم جماعة من المحرضين البارعين مثل طالوت المعافري وغيره، يعملون على إذكاء سخط العامة على الحكم وبلاطه، بما يرمون به الحكم من جنوح إلى المعاصي، واقتراف للإثم، وانهماك في اللهو والشراب، فكانت بين الأمير وبين أهل قرطبة وحشة تشتد على ممر الأيام، وزاد في سخط العامة ما فرضه الحكم على المواد الغذائية، من عشور مرهقة، وكان العامة يجاهرون بذم الأمير والخوض في سيرته، ويجتمعون في المساجد ليلا لتجريحه والطعن عليه، ووصلت بهم الجرأة إلى أن كانوا يتعرضون له في الطريق، وينعتونه علنا " بالمخمور ". وحدث ذات يوم أن خرج الأمير إلى الصيد، وشق سوق "الربض" فتعرضوا له بالقول، وصفقوا عليه بالأكف، فأمر بالقبض على عشرة من زعمائهم وصلبهم. ويقول لنا ابن القوطية، إن أولئك الذين قبض عليهم وصلبوا كانوا من زعماء مؤامرة دبرت ضد الحكم، وكان منهم بعض أعلام القوم، مثل يحيى بن نصر اليحصبي، وموسى بن سالم الخولاني وولده (١). وهنا ازداد الهياج، وبدت أعراض الثورة، وتحفز العامة للوثوب، وأكثروا من التعرض لجند الأمير وحرسه والاعتداء عليهم، وشعر الحكم بخطورة الموقف، فحصن القصر واتخذ أهبته. وفي ذات يوم اضطرمت نار الثورة فجأة، وذلك على أثر مشادة وقعت بين أحد مماليك الحكم وبين صيقل عهد إليه بصقل سيفه، فتباطأ الصيقل، فقتله المملوك، فثار العامة في الحال، وهرعوا إلى السلاح، وكان أشدهم تحفزاً وهياجاً أهل "الربض" الجنوبي في الضفة الأخرى من النهر، وهي ضاحية قرطبة الجنوبية المسماة (شَقُندة)، وكانت كثرتهم من الأوغاد والسفلة، وكان ذلك في اليوم الثالث عشر من رمضان سنة ٢٠٢ هـ (٢٥ مارس ٨١٨ م) (٢)، وزحفت


(١) ابن القوطية في " افتتاح الأندلس " ص ٥٠ و٥١.
(٢) تختلف الرواية الإسلامية في تاريخ هذه الموقعة اختلافاً بينا، فتضع معظم الروايات الأندلسية تاريخها في سنة ٢٠٢هـ؛ ويعين ابن الأبار اليوم والشهر الذي وقعت فيه فيقول إنها وقعت =

<<  <  ج: ص:  >  >>