لا أمان لمن لديه تخلف منهم. وبدأ رحيلهم في العشرين من رمضان (٢٠٢هـ) فتفرقوا في الثغور والكور، ولجأت جموع منهم إلى طليطلة لمخالفة أهلها على الحكم يومئذ، وعبر البحر كثير منهم إلى عدوة المغرب، واتجهت جماعة كبيرة منهم قوامها زهاء خمسة عشر ألفاً إلى المشرق في عدة من السفن، ورست في مياه الإسكندرية، وكانت مصر تضطرم يومئذ بنار الحرب الأهلية التي نشبت بين السّرى بن الحكم وبين خصومه حول ولايتها، فنزل الأندلسيون إلى الثغر واستقروا فيه، واشتركوا في الحرب الأهلية، واستمرت الفتنة بمصر، والأندلسيون بالإسكندرية، حتى قدم عبد الله بن طاهر إلى مصر أميراً عليها من قبل الخليفة المأمون، فسار إلى الإسكندرية وحاصرها، واضطر الأندلسيون إلى الإذعان والصلح، وغادروا الإسكندرية في سفنهم، وساروا إلى جزيرة إقريطش (كريت)، بقيادة زعيمهم أبى حفص عمر بن عيسى البلوطي، وافتتحوها، ونزلوا بها (٢١٢هـ - ٨٢٧ م)، وأسسوا بها دولة صغيرة زاهرة استمرت زهاء قرن وثلث، حتى استعاد البيزنطيون الجزيرة من المسلمين سنة ٣٥٠ هـ (٩٦١ م).
هكذا كانت ثورة " الربض " التي كادت أن تحمل الحكم وعرشه، وكانت ثورة شعبية بمعنى الكلمة، ولكنها كانت دون تنظيم ودون زعامة، وقد أدرك الحكم خطورتها، ولم تأخذه في إخمادها هوادة ولا رأفة، وأصدر عقب إخمادها كتاباً إلى الكور يشرح فيه الواقعة وظروفها. وقد رأينا أن ننقل نصه فيما يلى كوثيقة سياسية وديوانية هامة من وثائق العصر:
" بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإن الله ذوالفضل والمنن، والطول والعدل، إذا أراد إتمام أمر وتهميه، لمن جعله أهله وكفيه، سدده وأعزه، وأنفذ قضاءه بفلحه، ولم يجعل لأحد من خلقه قوة على عناده ودفاعه، حتى يمضي فيه حكمه له وعليه كما شاء، وختم في أم الكتاب لا مبدل لكلماته عز وجل، وإنه لما كان يوم الأربعاء لثلاث عشرة من شهر رمضان، تداعى فسقة أهل قرطبة وسفلتهم، وأذنبتهم من الشرطانيين، ألد الفئة، المعلوجي شراً وبطراً، عن غير مكروه سيرة، ولا قبيح أثر، ولا نكر حادثة، كان منا فيهم، فأظهروا السلاح، وتلينوا للكفاح، وهتفوا بالخلعان، وتأنقوا بالخلاف، ومدوا عنقاً إلى ما لم يجعله الله له أهلا من التأمير على خلقه، والتسور في حكمه. فلما رأيت ذلك من