ابن رشد، وهو سليل بيت من بيوتات العلم والنباهة العريقة بقرطبة، وبها ولد سنة ٥٢٠ هـ (١١٢٦ م)، ودرس بها دراسة حسنة، وأخذ الحديث عن أبيه أبي القاسم، وابن بشكوال، وأبي مروان بن مسرة، وغيرهم. درس الطب أولا على أبي مروان بن جرُّيول البلنسى، ثم بعد ذلك على أستاذه الأثير عبد الملك بن زهر، ودرس الفقه والأصول والكلام على أقطاب عصره. وبرع ابن رشد بالأخص في الحكمة والطب. ولما بلغ الثلاثين من عمره غادر موطنه قرطبة إلى إشبيلية، وكانت دولة المرابطين قد انهارت يومئذ، وخلفتها دولة الموحدين، وكان والي إشبيلية الموحدي يومئذ، هو حسبما قدمنا الأمير العالم، السيد أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، فاتصل به ابن رشد، وحظى برعايته، وكان من آثار هذه الرعاية أن وُلى ابن رشد قضاء مدينة إشبيلية، ثم ولى بعد ذلك قضاء قرطبة بعض الوقت. وكان من أنفس ما حظى ابن رشد خلال إقامته بإشبيلية، دراسته المستفيضة على أستاذه العلامة الطبيب العبقري عبد الملك ابن زهر، وهو الذي وصفه ابن رشد فيما بعد بأنه أعظم طبيب بعد جالينوس.
ولما تولى أبو يعقوب يوسف الخلافة، وقدم إلى إشبيلية وأقام بها، زادت مكانة ابن رشد وتوطدت في البلاط الموحدي، ولاسيما عن طريق أستاذه ابن طفيل طبيب الخليفة الخاص، وصديقه وناصحه الأثير لديه، وكان من آثار هذه الرعاية، أن عين الخليفة ابن رشد، طبيباً خاصاً له إلى جانب ابن طفيل. وكان ابن رشد ينتقل معظم الوقت مع بلاط الخليفة سواء بالمغرب أو الأندلس، ولما توفي الخليفة أبو يعقوب يوسف في سنة ٥٨٠ هـ، وخلفه ولده الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور، بقى ابن رشد في منصب الطبيب الخاص. ولما توفي ابن طفيل، انفرد ابن رشد بمنصب الطبيب الخاص. وكان الخليفة المنصور صنو أبيه في الشغف بالعلوم والفنون، ومن ثم لقى ابن رشد لديه نفس التقدير والرعاية، ولبث على مكانته المرموقة في هذا الجو العلمي الرفيع.
وكان ابن رشد خلال ذلك قد بلغ ذروة مجده العلمي، وكتب كثيراً من مصنفاته الفلسفية والطبية. وأهم مؤلفات ابن رشد الفلسفية، هي شروح فلسفة أرسطو، ويقال إن الذي أوعز إليه بكتابتها أستاذه ابن طفيل (١)، وهي تشغل عدة مؤلفات ورسائل، هي جوامع كتب أرسطوطاليس في الطبيعيات والإلهيات،