كحدث غير عادى، بل ودون رسوخ محلى. وقد كانت قوته الحقيقية، فضلا عن جرأة حركته، تتركز في أسرته الخاصة، وفي جمع من الأصدقاء والحلفاء مثل بني أشقيلولة المولدين.
ثم يبدى دهشته من أن مملكة غرناطة بالرغم من تكوينها من هضاب وبسائط يغلب عليها القفر أكثر مما يغلب الخصب، وامتداد رقعتها من جيّان شمالا إلى الجزيرة جنوباً، وبالرغم من أن الجند النصارى كانوا في أحيان كثيرة يخترقونها يسهولة حتى مرج غرناطة، فإن هذه العوامل كلها لم تكن شيئاً إزاء الحوادث المستقبلة. ولم يمنع تردد مؤسسها وتقلبه، ولا ظروفها الجغرافية والاقتصادية السيئة، من تقدمها وازدهارها، ومن بقائها مدى قرنين ونصف سليمة موطدة، وهي خلال هذا المدى الطويل تستأثر بأطماع النصارى الفتحية. ثم يقول:"حقاً إن ذلك كله لغريب، بل إنه لينبو عن الإيضاح"(١).
وهكذا نشأت إمارة غرناطة الصغيرة، من غمر الفوضى التي سادت الأندلس، على أثر انهيار سلطان الموحدين، ولكنها كانت في حاجة إلى الاستقرار والتوطد، وكان محمد بن يوسف يواجه في سبيل هذه المهمة كثيراً من الصعاب، وكانت الأندلس قد مزقتها الحرب الأهلية شيعاً، وانتثرت إلى حكومات ومناطق عديدة، وكان ابن الأحمر يحظى بتأييد جمهرة كبيرة من الشعب الأندلسى ولا سيما في الجنوب. ولم يك ثمة ما يمنع من التفاف الأمة الأندلسية كلها حول لواء هذا الزعيم المنقذ، ولكن روح التفرق والتنافس كانت متأصلة في نفوس المتغلبين والطامعين، وكان أصاغر الزعماء والحكام يؤثرون الانضواء تحت لواء ملك النصارى، والاحتفاظ في ظله بمدنهم وقواعدهم، على مظاهرة ابن الأحمر والانضواء تحت لوائه. وحدث ذلك بنوع خاص في مرسية وشرقى الأندلس حسبما أشرنا من قبل، حيث ارتضى والى مرسية محمد بن على بن هود وحكام لقنت وأوريولة وقرطاجنة وجنجالة وغيرها، أن يعقدوا الصلح مع ملك قشتالة على أن يعترفوا بطاعته ويؤدوا له الجزية، وأن يبقوا متمتعين في ظله بحكم مدنهم ومواردهم. وعلى أثر ذلك سلمت مرسية ودخلها ألفونسو ولد فرناندو الثالث ملك قشتالة في احتفال فخم (شوال ٦٤٠ هـ - أبريل ١٢٤٣ م). وهكذا كان الخلاف بين أبناء الأمة الأندلسية في تلك الآونة العصيبة، ويذهب إلى حد التضحية
(١) Isidro de la Cagicas: Los Mudéjares (Madrid ١٩١٨) p. ٤٢٥ & ٤٢٦.