وفي العام التالي سار عبد الرحمن إلى الشمال مرة أخرى، ومعه ولداه المطرِّف ومحمد، واستخلف ولده المنذر على قرطبة، وبدأ عبد الرحمن بمحاصرة تُطيلة حتى أخضعها، ثم زحف على بلاد البشكنس مرة أخرى، ولقيه غرسية وحليفه موسى بن موسى في جموع كبيرة، فهزم البشكنس وحلفاؤهم هزيمة شديدة، وقتل منهم عدد جم، وفر موسى وحليفه غرسيّة جريحين، وسار عبد الرحمن إلى بنبلونة فأثخن فيها وخربها، واضطر البشكنس إلى طلب الأمان والصلح، وعاد عبد الرحمن إلى قرطبة ظافراً بعد أن وطد هيبة الإسلام وحكومته في تلك الأنحاء (٢٢٨ هـ - ٨٤٢ م)(١). ولم يكن لهذه الغزوات في الواقع نتائج مستقرة، وكانت تقصد في الغالب إلى إيقاع الرعب في قلوب نصارى الشمال، وتخريب بلادهم، وإنهاك قواهم، حتى يلزموا السكينة، ويكفوا عن عدوانهم وعيثهم في أراضي المسلمين.
وفي نفس هذا العام الذي سحقت فيه نافار وخربت (٨٤٢ م)، توفي ألفونسو الثاني الملقب بالعفيف بعد أن حكم مملكة ليون (جليقية) إحدى وخمسين عاما، إذ تولى الملك في سنة ٧٩١ م، أيام الأمير هشام بن عبد الرحمن، وخلفه ولده راميرو الأول، أو رذمير كما تسميه الرواية العربية. وقد اقتصرنا فيما تقدم على أن نسرد من أخباره وأخبار مملكته، ما له صلة بسير الحوادث في اسبانيا المسلمة، أما أخبار مملكة ليون الداخلية، فسنفصلها عند الكلام على تاريخ المملكة النصرانية الشمالية.
* * *
وفي عهد عبد الرحمن بن الحكم، عرفت الأندلس لأول مرة خطراً جديداً لم يسبق لها أن عرفته أو توقعت حدوثه: ذلك هو خطر الغزوات النورمانية البحرية.
كانت سيادة البحار الشمالية منذ بداية العصور الوسطى في يد " الفيكنج " Vikings أو النورمانيين، وكان أولئك النورمانيون أمة بحرية عريقة، تمرست منذ غابر العصور في ركوب البحر ومقارعة أهواله، ووطنهم الأصلي هو اسكندناوة، وربما دانيماركه، وشواطىء ألمانيا الشمالية، ولذا عرفوا بالنورمانيين
(١) البيان المغرب ج ٣ س ٨٨ و٨٩؛ وابن الأثير ج ٦ ص ١٦٧ و١٧٢ و١٨٠، ومخطوط ابن حيان ص ١٨٥.