النصارى يمتلئون حياة وقوة وفصاحة، يتقنون اللغة العربية، ويبحثون بشغف عن الكتب العربية ويدرسونها بعناية، ويمتدحونها بحماسة، هذا في حين أنهم يجهلون جمال الآداب الكنسية، ثم يبدي ألمه من أن النصارى يجهلون شريعتهم ولغتهم اللاتينية، وينسون لغتهم القومية (١).
وهذه التفاصيل التي يقدمها إلينا العلامة سيمونيت عن أحوال المجتمع النصراني في قرطبة، هي تفاصيل مفيدة قيمة، ولكنها تنم عن كثير من التحامل، وتصور وجهة نظر الكنيسة بأسلوب مغرق متزمت. وهي تغضي عن تلك الحقيقة الهامة، وهي أن النصارى المستعربين وهم من رعايا الحكومة الإسلامية، ويتمتعون تقريباً بكامل حقوق إخوانهم المسلمين، يدينون لهذه الحكومة بالطاعة، واحترام القانون والنظام. ولئن كانت ثمة بعض قيود لحقوقهم، فإن سن هذه القيود لا يرجع إلى عدم التسامح، ولكنه يرجع إلى روح العصر ذاته.
بيد أن العوامل الدينية لم تكن وحدها مبعث هذا التحامل، الذي يضطرم به نصارى قرطبة نحو الحكومة الإسلامية، بل كان للعوامل الاجتماعية أيضاً أثرها في إذكائه. ذلك أن القسس والمتعصبين كان يحفظهم ويثيرهم، ما يحيط بالحكم الإسلامي من مظاهر الإعزاز والسؤدد، وما تبديه الهيئة الحاكمة من مظاهر الأبهة والفخامة، وما ينعم به المجتمع الإسلامي، من حياة رغدة رفيعة. وكان يذكي هذا الحقد في نفوسهم ما يعانونه من خشونة عامة قرطبة وتعريضهم وتحاملهم. وهكذا بلغ تعصب النصارى أقصاه في عهد عبد الرحمن، وبدا منذراً بشر العواقب. وكان في وسع أولئك المتعصبين في المدن البعيدة عن قرطبة مثل طليطلة وغيرها، أن يرفعوا علم الثورة، وأن يقاتلوا حكامهم وجهاً لوجه، ولكن الثورة في قرطبة كانت أمراً عسيراً. فحاولوا عندئذ أن يبثوا بذور الفتنة الطائفية والفوضى الدينية والاجتماعية، وأن يحاولوا الاستشهاد بطريق الاشتباك والتحدي.
وعمد القسس والمتعصبون إلى تحقيق غايتهم بوسيلة بسيطة خطيرة معاً، وهي المجاهرة بسب النبي العربي ودينه، وهي جريمة شنعاء تعرض مرتكبيها لعقوبة الموت، وأخذ بعض الغلاة من القسس والمتعصبين الهائمين ينزلقون عامدين إلى
(١) راجع هذا الفصل في مؤلف سيمونيت الضخم: Historia de los Mozarabes de Espana.Vol.I.p. ٢٥٨-٢٧٢