للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا المنحدر الخطر، ويوجهون السب المثير إلى النبي العربي في الطرقات جهراً، فإذا أخذوا أمام القضاة كرروا سبابهم بمنتهى الإصرار والجرأة. وحاول القضاة في البداية استعمال الرفق واللين، وإقناع أولئك العابثين بالعدول عن أقوالهم، ولكنهم ألفوا أنفسهم أمام سلسلة مدبرة من الجرائم المماثلة، فلم يترددوا عندئذ في الحكم على القاذفين بالموت، وهكذا أزهق بتلك الطريقة عدة من القسس والمتعصبين في فترة وجيزة من صيف سنة ٨٥١ م (٢٣٧هـ)، وكان الأحبار يكرمون رفات القتلى، ويسبغون عليهم صفة الشهداء، ويزيدون بذلك في اضطرام الفتنة. وكان في مقدمة المنظمين لهذه الحركة قس من قرطبة يدعى "أولوخيو"، كان يعمل على تحريض أولئك "الشهداء" المزعومين، ودفعهم إلى براثن الموت.

ويصف لنا العلامة المتزن ألتاميرا، تلك المؤامرة المنظمة فيما يأتي: " اتبع الأمراء المسلمون سياسة التسامح الديني منذ الفتح. وكان أشراف العرب يحترمون النصارى، ولكنهم لم يستطيعوا منع الدهماء في أوقات الحماسة المغرقة، من إهانة القسس حينما يسيرون في الشوارع فرادى أو في مواكبهم. وكانت هذه الحوادث وأمثالها تثير سخط النصارى، وأدى ذلك بمضي الزمن إلى حقد الورعين ولاسيما القساوسة. وحاول النصارى عن طريق آخر، أن يحدثوا فورات تحطم النير الإسلامي. فطلبوا الاستشهاد بالطعن في محمد أمام الناس والسلطات، وأعدموا لأن القانون يعاقب بالموت على ذلك. ولم يقتصر الاندفاع في ذلك الطريق على المدنيين، بل اندفع فيه كذلك قساوسة عقلاء مسالمون، وكان من هؤلاء أولوخيو وألبارو، ولم يجد هؤلاء طريقة أفضل للاحتجاج على الإسلام من الطعن فيه، وتقديم حياتهم قرباناً للدين الكاثوليكي " (١). وأدرك عبد الرحمن دقة الموقف وخطورته، ورأى أن يعالجه بالحزم والتفاهم معاً، فاستدعى مجلساً من الأساقفة، عقد في قرطبة برآسة ريكافرد مطران إشبيلية، ومثل الأمير فيه أحد كتابه النصارى، وهو جومث بن أنطونيان بن خوليان عامل أهل الذمة (٢)، وشرح للأساقفة


(١) R.Altamira: Hist.de Espana , Vol.I.p. ٢٣٠
(٢) ويسميه ابن القوطية قومس بن انتنيان بن يليانة وقد اعتنق الإسلام فيما بعد (ص ٨٣). وكذلك يذكره الخشني في كتاب قضاة قرطبة ويسميه أيضاً قومس بن انتنيان. راجع كتاب قضاة قرطبة (القاهرة) ص ١١١.

<<  <  ج: ص:  >  >>