للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أخرى تدعى ماريا، وكانت إبنة رجل نصراني من لبلة، وأم مسلمة تنصرت.

وربيت ماريا في الدير تربية دينية خالصة، كما ربى أخوها الأكبر فيه. ولما توفي أخوها وجدت عليه وجداً شديداً، وسارت إلى قرطبة تبغى الاستشهاد، ولجأت إلى نفس الكنيسة التي لجأت إليها فلورا. واعتزمت الفتاتان أمرهما وذهبتا إلى دار القضاء، وقالت فلورا للقاضي إنها إبنة مسلم، ولكنها اعتنقت النصرانية وأخلصت لها، وأن المسيح هو الإله الحق، وأن النبي محمد، هو نبى زائف ... الخ (١). وكذلك قالت ماريا إنها تؤكد من كل قلبها أن يسوع هو الرب الحقيقي، وأن الإسلام دين الشيطان. فأمر القاضي بإيداعهما السجن. وكان فيه بطريق الصدفة أولوخيو مقضياً بحبسه أيضاً، فعكف على وعظ الفتاتين، وحثهما على الاستشهاد في سبيل المسيح.

وحاول القاضي نصح الفتاتين، ولكنهما أصرتا على موقفهما وعلى مطاعنهما.

وأخيراً أصدر القاضي حكمه بإعدامهما، وذلك في ٢٤ نوفمبر سنة ٨٥١، وأخذتا إلى ساحة الإعدام، وهنالك أبدت كلتاهما إشارة الصليب، ثم أعدمتا بقطع الرأس، وألقيت جثتاهما إلى النهر، واستطاع النصارى العثور على جثة ماريا وحدها، فأخذوها مع رأسي الفتاتين. ونظمت فلورا فيما بعد في سلك القديسين (٢).

هكذا يروي سيمونيت قصة فلورا وزميلتها، ومهما كان في أسلوبه من رواء القصة المشجية، فإن في وقائعها ما يلقي ضوءاً على خيوط المؤامرة التي دبرها نصارى قرطبة، وفي مقدمتهم القسس، لإثارة الفتنة الطائفية والإخلال بالنظام والأمن، وهي محاولة لا يمكن لأية حكومة منظمة أن تغضي عنها.

واستمرت هذه الفتنة المضطرمة مدى حين، وتذرعت حكومة قرطبة في إخمادها بالحزم والشدة، وزهق من المتعصبين عدة أخر، ومن بينهم أولوخيو الذي نظمه النصارى فيما بعد في ثبت " القديسين ".

وهكذا شغل عبد الرحمن في أواخر عهده بتلك الفتنة الدينية الخطيرة، ولكن المتعصبين لم يحققوا منها ما أملوا، وكانت بالعكس مثار السخط والإنكار من جانب النصارى المعتدلين، الذين يقدرون تسامح الحكومة الإسلامية ورفقها ورعايتها.

* * *


(١) لم نر مجالا لإيراد بقية المطاعن التي أوردها سيمونيت على لسان فلورا وهي مطاعن مقذعة.
(٢) Simonet: Hist.de los Mozarabes, Vol.I.p. ٤١٣-٤٢٢

<<  <  ج: ص:  >  >>