الذى اقترب فيه النصارى من أسوار غرناطة، كان أبو عبد الله قد غادر قصره وموطن عزه ومجد آبائه إلى الأبد، فى مناظر تثير الأسى والشجن.
وهنالك روايتان، فهل خرج أبو عبد الله عندئذ لآخر مرة من الحمراء مع أهله وحشمه وأمتعته؟ أم هل خرج بمفرده فى صحبه من الحمراء للقاء الملكين الكاثوليكيين، ثم لحق به بعد ذلك ركب أهله وأمتعته؟ وهل سار تواً إلى طريق البشرّات حيث تعين محل إقامته، أم عرج على المعسكر القشتالى الملكى فى شنتفى فلبث فيه مع أهله أياماً، ثم سار بعد ذلك إلى البشرات؟
أما الرواية الأولى، وهى أكثر الروايات ذيوعاً لدى المؤرخين القشتاليين، فتجرى على النحو الآتى:
فى فجر اليوم الثانى من يناير، وهو اليوم الذى حدد لتسليم الحمراء، كان
رنين البكاء يتردد فى غرف قصر الحمراء وأبهائه، وكانت الحاشية منهمكة فى حزم أمتعة الملك المخلوع وآله، وقد ساد الوجوم كل محيا، واحتبست الزفرات فى الصدور. وما كادت تباشير الصبح تبدو، حتى غادر القصر، ركب قاتم مؤثر هو ركب الملك المنفى، يحمل أمواله وأمتعته، ومن ورائه أهله وصحبه القلائل، وحوله كوكبة من الفرسان المخلصين. وكانت أمه الأميرة عائشة تمتطى صهوة جوادها، يشع الحزن من محياها الوقور، وكان باقى السيدات من آله وحشمه، يرسلن الزفرات العميقة والدموع السخينة. واخترق الركب غرناطة فى صمت البكور وستره؛ وحين بلغ الباب الذى سيغادر منه المدينة إلى الأبد، ضج الحراس بالبكاء لرؤية ذلك المنظر المؤلم، ثم اتجه الركب صوب نهر شنيل فى طريق البشرات. وليس أبلغ فى وصف هذه المناظر المؤسية من قول شوقى طيب الله ثراه:(١).
مشت الحادثات فى غرف الحمـ ... راء مشى النعش فى دار عرس
هتكت عزة الحجاب وفضت ... سدة الباب من سمير وأنس
عرصات تخلت الخيل عنها ... واستراحت من احتراس وعس
ومغارة على الليالى وضاء ... لم تجد للعشى تكرار مس
...
آخر العهد بالجزيرة كانت ... بعد عرك من الزمان وضرس
فنراها تقول راية جيش ... باد بالأمس يين أمر وحس
(١) من قصيدته السينية الأندلسية الشهيرة، التى ينحو فيها نحو البحترى فى سينيته