أشرف أثناء مسيره فى شعب تل البذول (بادول) على منظر غرناطة، فوقف يسرح بصره لآخر مرة فى هاتيك الربوع العزيزة التى ترعرع فيها، وشهدت مواطن عزه وسلطانه، فانهمر فى الحال دمعه، وأجهش بالبكاء. فصاحت به أمه عائشة؛ "أجل فلتبك كالنساء، ملكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال". وتعرف الرواية الإسبانية تلك الأكمة التى كانت مسرحاً لذلك المنظر المحزن باسم شعرى مؤثر هو "زفرة العربى الأخيرة" El ultimo Suspiro del Moro، وما تزال قائمة معروفة حتى اليوم، يعينها سكان تلك المنطقة للسائح المتجول.
ثم تقول الرواية أيضاً إن باب الحمراء الذى خرج منه أبو عبد الله لآخر مرة، وهو باب الطباق السبع قد سد عقب خروجه برجاء منه إلى ملك قشتالة، وبنى مكانه، حتى لا يجوزه من بعده إنسان (١). وما زالت الرواية تعين لنا مكان هذا الباب بين الأطلال الدارسة. وهو يقع فى طرف الهضبة فى الجنوب الشرقى منها على مقربة من "برج الماء". وقد رأيناه، وقد سد فراغه حقيقة بالبناء.
وأما الرواية الأخرى، وهى الأقل ذيوعاً، فخلاصتها أن أبا عبد الله خرج من الحمراء فى صبيحة يوم التسليم بمفرده وفى نفر من صحبه إلى لقاء الملكين الكاثوليكيين وخرج بعد ذلك ركب أهله وأمتعته من الدار الملكية بحىّ البيازين ليلتقى به بعد انتهاء مهمته، وأنه لم يسر بعد ذلك تواً إلى البشرّات، بل سار بأهله وأمتعته إلى المعسكر القشتالى فى شنتفى، فقضى به أياماً، حتى سويت المسائل المتعلقة بمصيره، ثم سار الجميع بعد ذلك إلى أندرش التى اختارها أبو عبد الله مستقراً ومقاماً.
...
وقد كان لمحنة الأندلس المؤلمة ونهايتها المحزنة، وقع عميق فى جنبات العالم الإسلامى، ولاسيما فى أمم المغرب، فى الضفة الأخرى من البحر. غير أن هذه المحنة الغامرة لم تثر وحى الشعر، كما أثاره من قبل سقوط الثغور والقواعد الأندلسية، أيام أن كان للدولة الإسلامية بقيو من القوة والأمل. ذلك أن دولة الشعر الأندلسى كانت قد انهارت منذ بعيد، وتحطمت الأقلام، وعقدت المحنة الغامرة كل لسان.
ومع ذلك فقد صدرت فى رثاء الأندلس نفثات قوية مؤثرة تهز أوتار القلوب، معظمها من الضفة الأخرى من البحر من شعراء المغرب.
ومن أشهر المراثى التى نظمت فى رثاء الأندلس عقب المحنة بقليل، رثاء طويل
(١) Marmol:ibid ; Lib. I ; Cap. XX ; L. Alcantara; ibid; V. III. p. ٨٠