للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأخذت سياسة الإرهاق تجرف فى طريقها كل شىء، ونشط ديوان التحقيق، ( Inquisition) أو الديوان المقدس، يدعمه وحى الكنيسة وتأييد العرش، إلى مزاولة قضائه المدمر. وكانت مهمة هذه المحاكم الكنسية المروعة أن تعمل على حماية الدين (الكثلكة)، ومطاردة الكفر والزيغ بكل ما وسعت، وكان جل ضحاياها فى البداية من اليهود والمسلمين، ثم الموريسكيين أو العرب المتنصرين. وسنعرض فى فصل خاص إلى تاريخ هذه المحاكم وإجراءاتها ووسائلها، التى تنافى كل عدالة وكل قضاء متمدن.

وهكذا فإنه لم تمض بضعة أعوام على تسليم غرناطة، حتى بدت نيات السياسة الإسبانية واضحة نحو المسلمين، وكانت الكنيسة تحاول خلال ذلك أن تعمل لتحقيق غايتها أعنى تنصير المسلمين بالوعظ والإقناع، ومختلف وسائل التأثير المادية، ولكن هذه الجهود لم تسفر عن نتائج تذكر، فجنحت الكنيسة عندئذ إلى سياسة العنف والمطاردة، وأذعنت السياسة الإسبانية لوحى الكنيسة، ولم تذكر ما قطعت من عهود مؤكدة للمسلمين باحترام دينهم وشعائرهم. وكان روح هذه السياسة العنيفة حبران كبيران، هما الكردينال خمينس مطران طليطلة، ورأس الكنيسة الإسبانية، والدون ديجو ديسا "المحقق العام" لديوان التحقيق (١).

وحاولت السياسة الإسبانية من جانبها أن تسبغ على هذه التصرفات ثوب الحق والعدالة، فأخذت فى تحوير العهود والنصوص التى تضمنتها معاهدة التسليم، وتعديلها وتفسيرها بطريق التعسف والتحكم، ثم خرقها نصاً فنصاً، واستلاب الحقوق والضمانات الممنوحة تباعاً، فأغلقت المساجد، وحظر على المسلمين إقامة شعائرهم، وانتهكت عقائدهم وشريعتهم (٢). وأدرك المسلمون ما ترمى إليه السياسة الكنسية من محو دينهم ولغتهم وشخصيتهم، ودوت فى آذانهم تلك الكلمة الخالدة والنبوءة الصادقة، التى ألقاها إليهم فارس غرناطة يوم اعتزموا التسليم للعدو:

"أتعتقدون أن القشتاليين يحفظون عهودهم، وأن يكون لهذا الملك الظافر من الشهامة والكرم ما له من حسن الطالع؟ لشد ما تخطئون. إنهم جميعاً ظمئون إلى دمنا، والموت خير ما تلقون منهم، إن ما ينتظركم شر الإهانات، والانتهاك والرق؛


(١) كان المحقق العام General Inquisitor وهو قاضى قضاة الديوان، يمثل يومئذ أعظم السلطات الدينية والقضائية فى اسبانيا.
(٢) أخبار العصر ص ٥٤

<<  <  ج: ص:  >  >>