للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم ينعى على السياسة الإسبانية تخبطها وقصر نظرها فيقول: "وإنه لمن خواص السياسة الإسبانية فى ذلك العصر، أنه لم يفكر أحد فى هذه الشئون، ولم يحتط لها أحد فى المباحثات الطويلة، التى جرت فى قضية الموريسكيين. وقد حدثت ثمة مناقشات لا نهاية لها حول مختلف المشاريع ومزاياها، والوسائل التى ينفذ بها النفى، وماذا يسمح به للمنفيين، وماذا يكون مصير الأطفال. ولكن النتائج المحتملة تركت للمصادفة، واحتقرت التفاصيل العملية، واحتقر رخاء الفرد، وهو ما يوضح فشل السياسة الإسبانية" (١).

تلك هى النتائج المادية الواضحة، الإقتصادية والاجتماعية، التى جنتها اسبانيا النصرانية من جراء سياستها المبيتة لإبادة الأمة الأندلسية. فقد لبثت اسبانيا زهاء قرن، تعمل بأقسى وسائل الإرهاق والمطاردة، على استصفاء ما بقى من فلول الأمة الأندلسية، فى الأرض التى بسطت عليها زهاء ثمانية قرون، ظلال الرخاء والأمن، وضوء العلم والعرفان، ولم تطق حتى بعد أن استحالت هذه الفلول، إلى شراذم معذبة مهيضة، وأكرهت على نبذ دينها ولغتها وتقاليدها، أن تبقى عليها، وعلى ما تبقى لها من مواهب وقوى منتجة، ورأت فى سبيل أسطورة من التعصب والجهالة، أن تقضى عليها بالتشريد والنفى النهائى، وأن تخرج من بين سكانها زهاء نصف مليون من أفضل العناصر العاملة. وكان من سوء طالع اسبانيا أن جاء نفى الموريسكيين، فى وقت أخذت فيه عظمة اسبانيا ورخاؤها، ينحدران سراعاً إلى الحضيض، وجنح المجتمع الإسبانى إلى حياة الدعة والخمول، وأخذ سكانها فى التدهور، فجاء نفى الموريسكيين ضربة جديدة لحيوية اسبانيا، التى أخذت فى التفكك والذبول، وتركت وراءها جرحاً عميقاً لم يقو الزمن على محو آثاره بصورة حاسمة. ومن ثم فإنه من الواضح أن يعلق النقد الحديث أهمية بالغة على نفى الموريكسيين، ويعتبره عاملا بعيد المدى فيما أصاب اسبانيا الحديثة، من ضروب التفكك والإنحلال.

على أن التفكير الإسبانى يختلف فى قبول هذا الرأى وتقدير مداه؛ ويهاجمه وينكره بالأخص رجال الدين، وقد كانوا منذ البداية روح هذه السياسة المخربة، وأكبر العاملين على تنفيذها. وقد استقبل رجال الدين نفى الموريسكيين بأعظم مظاهر الغبطة والرضى، واعتبروه ذروة النصر الدينى؛ ويقول أحدهم وهو القس بليدا وهو من مؤرخى القرن الماضى، فى كتابه الذى نشره دفاعاً عن هذا الإجراء:


(١) Lea: The Moriscos ; p. ٣٨٧

<<  <  ج: ص:  >  >>