وأوقع بهم وقتل منهم عدة مئات أرسلت رؤوسهم إلى قرطبة. وسارت جند الصائفة في الوقت نفسه إلى طليطلة، فنازلتها وعاثت في أحوازها، وانتسفت زروعها وأقواتها.
ورأى الأمير محمد أن يتابع معاقبة أهل طليطلة. فخرج إليهم بنفسه في صيف سنة ٢٤٤ هـ (٨٥٨ م)، وحاصر المدينة الثائرة، وتأهب أهلها لقتاله بالرغم مما أصابهم من نقص في القوى، وشح في الأقوات، واعتمدوا على حصانة مدينتهم. ولجأ محمد إلى الحيلة فهدم مهندسوه قواعد القنطرة الكبيرة مع تركها قائمة ثم انسحب بجنوده، وهنا خرج أهل طليطلة لقتاله، فلما احتشدوا على القنطرة سقطت بهم في نهر التاجه وغرق منهم عدد جم (١). ولم يترك محمد هذه المرة وسيلة رائعة إلا استعملها لسحق المدينة الثائرة، فخرب حصونها ومعالمها، وأوقع بأهلها قتلاً وتشريداً، حتى اضطروا إلى طلب الأمان والصلح، وأذعنوا للخضوع والطاعة، وهم يعتزمون النكث في قرارة أنفسهم متى سنحت الفرص (٢٤٥ هـ - ٨٥٩ م).
وهكذا لبثت طليطلة عصراً تضني حكومة قرطبة بتمردها وثوراتها المتوالية؛ وكانت حاضرة القوط القديمة تشعر دائماً بقوتها ومنعتها الطبيعية، وكانت فوق ذلك مثوى التيارات النصرانية الخطرة حسبما بينا، تنساب إليها من نصارى الشمال، ومن النصارى المعاهدين بقرطبة، ومن أهلها أنفسهم. والواقع أن طليطلة كانت بوعورة موقعها علي المنحدر الصخري الممتد نحو نهر التاجه، وإحاطة النهر بهذا المنحدر الوعر، ثم بحصونها القوية، وأسوارها العالية الضخمة، من أمنع مدن العصور الوسطى. وما تزال إلى اليوم حين نتأملها ونتجول فيها، تذكرنا بموقعها الصعب، وطرقها الصخرية الوعرة، وبقية أسوارها وحصونها المنيعة، بما كان لها من سابق الحصانة والقوة فيما خلا من العصور.
وهكذا أخمدت ثورة المولدين والنصارى المعاهدين في طليطلة إلى حين؛ وتأهب محمد في الوقت نفسه لقمع شغب النصاري المتعصبين في قرطبة وغيرها،
(١) يقدم إلينا ابن حيان عن هدم القنطرة قصة أخرى، فيقول إن جنود محمد حاولوا هدم القنطرة تحت أنظار أهل المدينة، وأنهم سخروا من هذه المحاولة، وأيقنوا بعقمها. ثم خرجوا للقتال، واحتشد الكثير منهم فوق القنطرة، فانهارت تحت أقدامهم وهوت بمن فوقها إلى النهر، وهدمت صخورها عليهم من كل ناحية (مخطوط القرويين لوحة ٢٦٢ أ).