بعض سفنهم إلى شواطىء العدوة (عدوة المغرب) وعاثت فيها، ثم نزلوا بشاطىء الأندلس الجنوبي، وسارت سفنهم قبالتهم على ساحل تدمير حتى أوريولة، فدخلوها، وعاثوا في تلك الأنحاء نهباً وسبياً، واشتبكوا مع القوات الأندلسية في عدة معارك برية وبحرية عنيفة، حطمت فيها بعض سفنهم، وقتل كثير من المسلمين، واستمر عيث النورمانيين على هذا النحو أشهراً حتى خبت فورتهم، وفقدوا كثيراً من سفنهم. فارتدوا نحو الشمال على طول شواطىء اسبانيا الشرقية، ونفذت منهم قوة خلال نهر إبره إلى نافار، واقتحموا عاصمتها بنبلونة وأسروا ملكها غرسية، ولم يطلقوه إلا لقاء فدية كبيرة، وأغارت قوات أخرى منهم على الجزائر الشرقية وشواطىء بروفانس حيث عبروا مصب الرون، وخربوا آرل ونيمة وفالانس.
وهكذا لم تكن الغزوة النورمانية في هذه المرة مفاجأة مثلما كانت الغزوة الأولى، ولم يكن عيث الغزاة على نفس النطاق الواسع. وهذا ما يسجله لنا ابن حيان في ختام حديثه عنها، إذ يقول:" فلم يكن لهم في هذه الكرّة الإنبساط في البحر، والإضرار بأهل السواحل ما جرت به عادتهم، ولم يجدوا في السواحل مطمعاً لشدة ضبطها، ولاقوا مع ذلك من البحر هولا عطبت له من مراكبهم أربعة عشر مركباً بناحية البحيرة من الجزيرة، فنكبوا عن حائط الأندلس، واعتلوا إلى جهة الفرنجة، فلم يلقوا ظفراً، وأسرعوا الانصراف إلى بلدتهم بالخيبة، فلم تكن لهم بعد بالأندلس إلى اليوم عودة "(١).
وفي العام التالي أعني سنة ٢٤٦ هـ (٨٦٠ م) بعث محمد حملة إلى الولايات الشمالية بقيادة حاكم طرطوشة. ويقول لنا ابن حيان إن الأمير محمد هو الذي غزا بالصائفة بنفسه في تلك السنة. وكان غرسية ملك نافار، قد تحالف عقب انطلاقه من أسر النورمان مع أردونيو ملك ليون، وأغارت قواتهما المتحالفة على الأراضي الإسلامية. وعلى أى حال فقد زحفت القوات الأندلسية على نافار، ولم تكن قد
(١) تختلف الرواية الإسلامية في تاريخ هذه الغزوة النورمانية الثانية لشواطىء الأندلس، فيضعه الرازي في سنة ٢٤٥ هـ (٨٥٩ م). ويتابعه في ذلك ابن الأثير وابن عذارى. ويضعها هشام ابن معاوية الشبينسي في سنة ٢٤٧ هـ (٨٦١ م)، وقد أخذنا بالرواية الأولى لأنها أرجح وأكثر اتفاقاً مع سير الحوادث. راجع في تفاصيل الغزوة، ابن حيان في مخطوط القرويين (لوحة ٢٦٣ أوب و٢٦٤ أ، والعذري في " الأوراق المنثورة من ترصيع الأخبار " ص ١١٨ و١١٩، وابن الأثير ج ٧ ص ٢٨، والبيان المغرب ج ٢ ص ٩٩.