أفاقت بعد من ضربة النورمانيين، وغزت بنبلونة وخربت حصونها. ولم تقو جموع غرسية على رد المسلمين، واستمر المسلمون بضعة أسابيع يخربون بسائط نافار وينتسفون قراها وحصونها، وكان من بين الأسرى فرتون ولد غرسية، فأخذ إلى قرطبة حيث اعتقل زهاء عشرين عاماً (١).
وفي صيف سنة ٢٤٧ هـ (٨٦١ م) سارت حملة أندلسية أخرى إلى ألبة والقلاع. وكان موسى بن موسى قد طلب إلى محمد أن يكون طريق الحملات الغازية عن غير منطقته، نظراً لما يتجشمه في مقارعة النصارى من جهد، وما يصيب أراضيه من الدمار، فأجابه الأمير إلى طلبه، وسارت الحملة من طريق آخر، وعاثت في أراضي النصارى.
وكان موسى بن موسى بن قسيّ يومئذ، قد بسط نفوذه على بسائط قواعد الثغر الأعلى، وأصبح سيداً لتطيلة ووشقة وسرقسطة وأحوازها. وكان هذا الزعيم القوي الذي يرجع حسبما أسلفنا إلى أصل نصراني، وله مصاهرة وقرابة مع الأمراء النصارى، ينتهز كل فرصة لتدعيم استقلاله، وكان يتشح بلقب الإمارة، ولم يكن يدين لحكومة قرطبة إلا بنوع من الولاء الإسمي. وكانت علائقه مع أردونيو ملك ليون جاره من الغرب، تتردد بين الخصومة والتحالف وفقاً للظروف. وكان أردونيو ينظر إلى اتساع ولايته من ناحية الغرب بعين القلق، وموسى من جانبه يحرص على تحصين قواعده وحدوده؛ ففي سنة ٢٤٨ هـ (٨٦٢ م) سار موسى في قواته إلى الغرب لتحصين قواعده الغربية ومعه صهره غرسية أمير نافار، وحاول أردونيو من جانبه أن يحبط هذه الحركة، فهاجم بعض الحصون التابعة لموسى وفي مقدمتها حصن " البلدة " الواقع على نهر إبره على مقربة من قلهرّة، ونشبت بين الفريقين معركة جرح فيها موسى جراحاً خطيرة، وهزمت قواته وقتل منها عدد كيير من المسلمين والنصارى، وقتل صهره غرسية، وهدم أردونيو حصن البلدة وغيره من الحصون التي تحمي أراضي ابن قسي، ولم يمض سوى قليل حتى توفي موسى نفسه متأثراً بجراحه، وكانت وفاته نذيراً بتطور الحوادث في الثغر الأعلى.
وذلك أن موسى بن موسى كان بالرغم من استقلاله عن حكومة قرطبة،
(١) راجع البيان المغرب ج ٢ ص ٩٩ و١٠٠، ومخطوط القرويين اللوحة ٢٦٣ أ.