بمنتهى القسوة حسبما فصلنا فى موضعه. وكانوا يحافظون جهدهم على لغتهم العربية. ولكن السياسة الإسبانية المرهقة، فطنت منذ الساعة الأولى إلى أهمية اللغة فى تدعيم الروح القومية، فعولت على سحق العربية وكل آثارها، وصدر منذ أيام الإمبراطور شارلكان فى سنة ١٥٢٦، أول قانون لتحريم التخاطب بالعربية على الموريسكيين، ولكنه لم يطبق بشدة. وكانت العربية ما تزال حتى ذلك الوقت لغة لأدب يحتضر، وكانت ما تزال لغة التعاقد والتعامل، لا فى أنحاء مملكة غرناطة القديمة وحدها، ولكن أيضاً فى مجتمعات المدجنين القاصية فى أراجون حسبما تدل عليه وثائق عثرنا عليها (١). وكان يوجد ثمة بين الموريسكيين من ينظم بها الشعر. وقد أشرنا فيما تقدم إلى القصيدة التى أرسلها الموريسكيون إلى السلطان بايزيد الثانى يلتمسون فيها النجدة والغوث، وهى قصيدة تنم بالرغم من ركاكتها عن روح شعرية مؤثرة. واستمر الموريسكيون عصراً آخر يوجهون رسائلهم العربية إلى مسلمى المغرب.
وكانت السياسة الإسبانية تضيق ذرعاً بالعربية، وتزداد منها توجساً. فعادت فى عهد فيليب الثانى لتتخذ خطوتها الحاسمة فى القضاء عليها. وصدر فى سنة ١٥٦٦ قانون جديد صارم يحرم على الموريسكيين التخاطب بالعربية أو التعامل بها على نحو ما فصلنا، وطبق القانون بمنتهى الشدة. وكانت العربية قد أخذت تغيض شيئاً فشيئاً فى غمر العسف والاضطهاد، فجاء القانون الجديد ضربة قاضية لمظاهرها ْالباقية. وفى هذ الوقت بالذات نشهد نفثات العربية الأخيرة لدى الموريسكيين فى بعض قصائدهم السرية الثورية. وفى لغة الخطاب الذى نشرناه فيما تقدم لمولاى عبد الله آخر زعماء الثورة الموريسكية ما يوضح لنا مدى الانحلال الذى انتهت إليه اللغة العربية فى ذلك العصر.
ولم تمض فترة قصيرة على تطبيق القانون الجديد بتحريم العربية نهائياً، وفرض القشتالية كلغة للتخاطب والتعامل على الموريسكيين، حتى اختفت المظاهر والآثار الأخيرة للعربية. ومع ذلك فقد وجد الموريسكيون فى قشتالة ذاتها متنفس تفكيرهم وأدبهم القديم، فكانوا يكتبون القشتالية سراً بأحرف عربية، وأسفر ذلك بمضى
(١) ومن ذلك وثيقة زواج بالعربية مؤرخة يوم الأحد ١٧ يوليه الموافق ١٠ رمضان سنة ٩٢٨ هـ (١٥٢٢ م) بين "الشب الكريم محمد خشان وبين المقدم القاضى ابراهم ذاعمر فى الشيبة الكريمة فاطمة بنت على سانته من ربض مسلمى من مدينة قلعة أيوب"، وهى بخط عربى ردىء (مكتبة مدريد الوطنية مجموعة الألخميادو رقم ٤٩٦٨ وثيقة نمرة ٩)