ولم يكن هذا الهوى الفنى قاصرأً على الأمراء والكبراء، فقد روى لنا المقرى أنه كان ببعض حمامات إشبيلية تمثال بديع الصنع، قال فيه الشاعر:
ودمية مرمر تزهو بجيد ... تناهى فى التورد والبياض
لها ولد ولم تعرف حليلا ... ولا ألمت بأوجاع المخاض
ونعلم أنها حجر ولكن ... تتيمنا بألحاظ مراض
وفى عهد المرابطين والموحدين خبت دولة الفن الإسلامى فى الأندلس نوعاً، ذلك لأن أولئك الغزة البربر، الذين كانوا يضطرمون بروح دينية محافظة، لم يقدّروا الفنون والآداب على نحو ما كانت أيام الخلفاء الأندلسيين. ومع ذلك، فقد كان لدى الموحدين، بالرغم من طابعهم الدينى المحافظ، طموح فنى، ظهر أثره أولا فى إقامة المنشآت الدفاعية العظيمة، ثم ظهر فى إقامة المساجد والقصور، سواء فى المغرب أو الأندلس. وقد كان قصر إشبيلية، الذى أنشأه أبو يعقوب يوسف وجامع إشبيلية الأعظم، ومنارته العظيمة التى أنشأها ولده الخليفة المنصور، والتى مازالت قائمة إلى اليوم بعد أن حولت إلى برج لأجراس كنيسة إشبيلية العظمى، التى أقيمت فوق موقع المسجد الجامع: كانت هذه المنشآت العظيمة عنواناً لعظمة الفنون والزخارف الإسلامية فى عصر الموحدين. وازدهرت الفنون والآداب كرّة أخرى فى مملكة غرناطة. وكان بنو الأحمر حماة كرماء للفنون. ونلاحظ أن الفن الأندلسى بلغ فى هذا العصر ذروة التحرر والافتنان أيضاً، وتوسع الفنانون المسلمون فى تصميم المناظر والرسوم. ولم يقتصر الأمر على الصور والرسوم والتماثيل المفردة، بل تعداه إلى المناظر المصورة، وإلى المجموعات المنحوتة. وقد كانت مملكة غرناطة على صغر رقعتها، وضعفها من الوجهتين العسكرية والسياسية، تحدث من الناحية الحضارية والفنية فى قشتالة، جارتها الكبيرة القوية، أثرها العميق. يقول الأستاذ مورينو:"إنه منذ عهد سان فرناندو إلى عهد هنرى الرابع، كان الكثير من عناصر حضارة قشتالة، وهندستها المدنية، وفنونها الزخرفية الدينية، وكل ضروب الإناقة والمتعة فى الحياة - كانت كلها قائمة على الاقتباس من الأندلس"(١). وما زالت حمراء غرناطة، وما زالت أبهاؤها ومجالسها الرائعة، تنبىء عما انتهت إليه آخر دول الإسلام فى الأندلس من البذخ والبهاء، وعما بلغه الفن الأندلسى فى هذه المرحلة