للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأشدهم مراساً، وأخطرهم جانباً. وكانت سلسلة الجبال الواقعة بين رندة ومالقة مأوى الأشقياء والعصاة. وكان عمر سليل أسرة من المولدين ترجع إلى أصل نصراني قوطي. وقد سجلت لنا الرواية الأندلسية نسبته، فجده عند الفتح هو ألفونسو القس، وجده الرابع جعفر هو أول من اعتنق الإسلام من أسرته (١). ونشأ بيتهم في تاكرنَّا من أعمال رندة. وكان والده حفصون ذا مال ووجاهة. ونشأ ولده عمر فاسداً سيىء السيرة، عنيفاً يعتدي على النفس والمال، ولم يلبث أن هجر أسرته وأطلق العنان لأهوائه وغيه، والتف حوله جماعة من أهل الفساد والبغي، فألف منهم عصابة معتدية ناهبة، ونزل بمكان منيع بجبل بُبَشتر الواقع شمال شرقي جبال رندة، وكان ذلك في سنة ٢٦٧ هـ (٨٨٠ م). وقد وصف لنا ابن حيان مؤرخ الأندلس ابن حفصون عند ذكر الخوارج في تلك العبارة الجامعة: " إمامهم وقدوتهم عمر بن حفصون، أعلاهم ذكراً في الباطل، وأضخمهم بصيرة في الخلاف، وأشدهم سلطاناً، وأعظمهم كيداً، وأبعدهم قوة " (٢).

ويشرح لنا الرازي البواعث الأولى لهذه الفتنة التي اضطرمت في كورة ريُّه والجزيرة، فيقول لنا إن السبب في تحريكها يرجع إلى عنف يحيى بن عبد الله ابن يحيى عامل الأمير محمد في كورة ريه، في مطالبته لأهلها ببقايا عشور تأخرت عليهم، واشتطاطه في ذلك وإرهاقهم، فامتنعوا عليه واعتصموا بجبالهم، وتأهبوا للدفاع عن أنفسهم, فحشد يحيى بن عبد الله قواته لقتالهم، واستدعى أخاه أحمد ابن عبد الله عامل كورة الجزيرة بقواته لمعاونته في حربهم، ونشبت بين قوات الأمير وبين الخوارج معارك عنيفة قتل فيها كثير من الفريقين، وكان ذلك في سنة ٢٦٥ هـ (٨٧٨ م). وفي العام التالي سار بالصائفة إلى كورة ريه عبد الله ابن الأمير محمد، وعلى قيادة الجيش الحاجب هاشم بن عبد العزيز، وكان قد أطلق سراحه من الأسر، وعاد إلى سابق مكانته لدى الأمير محمد، واستأنف القيادة لأول مرة، فاشتد في مطاردة الخوارج، ومزق جموعهم، وأنشأ عدة


(١) قال ابن خلدون عن ابن حيان إنه عمر ابن حفصون بن عمر بن جعفر بن دميان بن فرغلوش ابن أدفونش القس (ج ٤ ص ١٣٤). وزاد عليها صاحب البيان المغرب اسما آخر (ج ٢ ص ١٠٨).
(٢) ابن حيان في المقتبس، وهو السفر الثالث المطبوع بعناية المستشرق الأب ملشيور أنتونيا (باريس ١٩٣٧) ص ٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>