إلى الأعماق، وتجاذبتها الأعاصير من كل صوب، وكان الأمير الفتى يرى أن خطة التردد والرفق التي اتبعها أجداده نحو الزعماء الخوارج كانت سياسة خطرة، ولم تكن ناجعة، وأنه لابد لاستتباب الأمن واستقرار السكينة، من سحق الثورة وزعمائها بأى الوسائل. ومن ثم فإنه لم تمض على جلوسه أسابيع قلائل حتى بعث حملته الأولى إلى المناطق الثائرة بقيادة الوزير عباس بن عبد العزيز القرشي، فقصدت إلى منطقة قلعة رباح وكان قد ثار بها الفتح بن موسى بن ذى النون من زعماء البربر، ومعه حليفه الرياحي المعروف بأرذبلش، فوقعت بين جند الأمير وبين العصاة معارك شديدة، هزم فيها الفتح بن موسى، وارتد مغلولا إلى معاقله، وقتل أرذبلش، وبعثت رأسه إلى قرطبة، فرفعت فوق باب السدة، وطهرت قلعة رباح وأحوازها من الثورة، وذلك في شهر ربيع الآخر (١). وسارت حملة أخرى نحو الغرب، واستردت مدينة إستجة من أيدي العصاة أتباع ابن حفصون (جمادى الأولى)، وهدمت أسوارها وقنطرتها الواقعة على نهر شنيل، حتى تعزل وتغدو بذلك عاجزة عن التمرد والخروج.
وفي شعبان سنة ٣٠٠ هـ (مارس سنة ٩١٣ م) خرج عبد الرحمن للغزو وتولى القيادة بنفسه، فأثار ظهور الأمير الفتى في الصفوف حماسة الجند وأكبروا شجاعته وإقدامه. وسار عبد الرحمن أولا إلى الجنوب الشرقي، ومعه جند كورة إلبيرة وزعماؤها، وكان ابن حفصون قد نزعهم حصونهم ومعاقلهم، فالتجأوا إلى الأمير، وألقوا بطاعتهم إليه، واتجه صوب كورة جيان في وسط الأندلس، حيث كانت الثورة على أشدها، وحيث كان ابن حفصون أخطر الزعماء الخوارج يبسط سلطانه على طائفة من الحصون القوية؛ فاستولى على حصن مَرتُش الواقع في طريق جيان، وسير في نفس الوقت بعض قواته إلى مالقة لإنجادها، وكان يهددها الزعيم الثائر، فاحتلتها وأمنها. وقصد عبد الرحمن بعد استيلائه على مرتش، إلى حصن مونت ليون (حصن المنتلون) القريب منها، وكان يمتنع به زعيم من المولدين هو سعيد بن هذيل، فضربه بشدة، وهاجمه حتى اقتحمه، وأذعن الزعيم الثائر إلى التسليم والطاعة ومنح الأمان (رمضان سنة ٣٠٠ هـ).
وتعتبر هذه الغزوة أول غزوات عبد الرحمن، وتسمى عادة بغزوة المنتلون.