عبد الرحمن، واشترط عامر عند استسلامه أن يمنح الإقامة مدة في حصن " شنت مريّة " من حصونه، حتى ينظم شئونه ويسير في أهله إلى قرطبة، فأجيب إلى طلبه (١). وهكذا أخمدت الثورة في سائر النواحي، بعد أن لبثت زهاء نصف قرن تستنفد قوى الأندلس ومواردها، وتفت في عضدها، وتقعدها عن الكفاح ضد عدوها الحقيقي المتربص بها، ونعني اسبانيا النصرانية.
- ٢ -
كانت إسبانيا النصرانية في خلال تلك الفترة التي اضطرمت فيها الأندلس بالفتن، وشغلت حكومة قرطبة بأمر الثورة في النواحي، تسير قدماً في سبيل القوة والتوطد، وتعمل جاهدة لانتهاز كل فرصة للكيد للأندلس، وممالأة ثوارها والعيث في أراضيها. وكانت تنقسم عندئذ إلى إمارتين أو مملكتين متحالفتين، هما مملكة ليون (أو مملكة جليقية)، ومملكة نافار (نبره أو بلاد البشكنس).
وكانت ليون وهي الواقعة في الشمال الغربي بين المحيط ونهر دويرة، أكبر المملكتين وأوفرهما قوة ومنعة، وكانت بذلك تتولى قيادة إسبانيا النصرانية، في ميدان الكفاح الخالد بينها وبين إسبانيا المسلمة. وكانت قواعد الأندلس الشمالية التي تتاخم مملكة ليون، مثل أسترقة وسمورة وشلمنقة وشقوبية وميراندة، قد خلت منذ أواخر القرن الثامن من معظم سكانها المسلمين، واستوحش العرب والبربر، لقلتهم في تلك الأنحاء، وكثر اعتداء النصارى عليهم، وتوالي القحط في تلك الربوع، فهاجروا إلى الجنوب، وجاء ملك ليون ألفونسو الثالث (أواخر القرن التاسع)، فعاث في تلك المنطقة، وفتك بمن فيها من المسلمين، ثم ارتد إلى جباله. ولبثت هذه المنطقة قفراً خالية تقريباً، يتبادلها المسلمون والنصارى من وقت إلى آخر، وشغلت حكومة قرطبة بأمر الثورة فلم تستطع رد الاعتداء، وانتهز ألفونسو الثالث تلك الفرصة، فدفع حدود مملكته جنوباً حتى نهر دويرة.
واختط هنالك عدة قلاع منيعة، كان يتخذها النصارى قواعد للإغارة على الحدود الإسلامية، واجتياح المسلمين العزل بالنار والسيف، وقتل النساء والأطفال والشيوخ، ونهب الأموال والمتاع. وجرى ولده غرسية على هذه السياسة الدموية الغاشمة. وكانت إسبانيا النصرانية تنظر من خلال هضابها القفرة، ومواردها
(١) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - لوحة ١٠١ ب.