وهو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مَسَرَّة من أهل قرطبة، وبها ولد سنة ٢٦٩ هـ (٨٨٢ م)، ودرس على أبيه وعلى ابن وضاح والخشني وغيرهم، ولكنه جاهر ببعض الآراء الدينية المغرقة في التأويل والقدر وإنفاذ الوعيد وغيرها، فاتهم بالزندقة، فغادر الأندلس فارًّا إلى المشرق، وأنفق هنالك بضعة أعوام، وتفقه على يد المعتزلة والكلاميين وأهل الجدل. ثم عاد إلى الأندلس، وهو يخفي آراءه ونحلته الحقيقية تحت ستار من النسك والورع، وكان ذلك في بداية عهد الناصر، فاختلف إليه الطلاب من كل صوب، وكان يستهويهم بغزير علمه، وسحر بيانه، ومنطقه الخلاب، حتى التف حوله جمهرة كبيرة من الصحب والأتباع، أضحت تكون مدرسة خاصة من الآراء الدينية والكلامية المتطرفة. واختلف الناس في أمر ابن مسرة، فمنهم من كان يرتفع به إلى مرتبة الإمامة في العلم والزهد والورع، ومنهم من كان يرميه بالزندقة وترويج البدع، والانحراف عن مبادىء الدين الصحيحة. وتوفي ابن مسرة بقرطبة في شوال سنة ٣١٩ هـ (٩٣١ م)(١). ولكن آراءه وتعاليمه بقيت من بعده ذائعة بين تلاميذه وأتباعه، وتكونت من حولها فرقة سرية، اتهمت بالمروق والإلحاد، تتابع دعايته، وتعمل على بث تعاليمه، حتى برم بهم المتزمتون من أهل السنة، وأخذوا يسعون لدى السلطات المختصة، لتعمل على قمع هذه الجماعة، والقضاء على تعاليمها.
وإليك كيف يصور لنا ابن حيان بقلمه البارع خطة ابن مسرة في بث تعاليمه، واستهواء أتباعه. قال:
" كان مذهب الظنين، المرتب المرائي بالعبادة، المنطوى على دخل السريرة، محمد بن عبد الله بن مسرة، الرابض للفتنة، دب في الناس صدر دولة الخليفة الناصر لدين الله، واستهواهم بفضل ما أظهره من الزهد، وأبدى من الورع.
" وكان يستهوي العقول، ويصور الأفئدة. وكان من شأنه أن يلقي أول من يأتيه، مقتبساً من أهل السلامة، بالمساهلة، إلى أن يحيله عن رأيه بالمفاضلة، فإذا أصغى إلى عذوبة منطقه، وعلق في شرك حجاجه، غره رفقاً بباطله من
(١) ابن الفرضي في " تاريخ العلماء والرواة بالأندلس " (القاهرة) ج ٢ رقم ١٢٠٤. وكذلك الحميدي في " جذوة المقتبس " (القاهرة) ص ٥٨ و٥٩. والتكملة لابن الأبار (القاهرة) رقم ٧٦٥ و٩٩١.