للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العلماء وأقطاب البحث والمناظرة. والظاهر أنه قد وقعت فعلا قبل ذلك مراسلات كلامية بين الناصر وأوتو عن الإسلام والنصرانية، وأن الناصر قد عرض في بعض رسائله بالنصرانية وتعاليمها، فألفى أوتو الفرصة سانحة لأن يدافع سفيره العلامة الذلق عن قضية النصرانية لدى خليفة قرطبة (١). بيد أنه يبدو من أقول الروايات الكنسية أن هذه المهمة الجدلية، لم تكن إلا مهمة ثانوية إلى جانب موضوع سفارته الأصلية، وأن مهمته الحقيقية كانت تتعلق بشأن توغل المستعمرات العربية المغامرة، في جنوبي فرنسا وفي ليجوريا وسويسرة، وعيثها في تلك الأنحاء، بصورة تبث الرعب والروع إلى كثير من المدن والجماعات النصرانية، والاستعانة بنفوذ خليفة الأندلس الذي تنتمي إليه هذه المستعمرات من الناحية الأدبية، لوقف عدوانها وتوغلها (٢). وقدم يوحنا إلى قرطبة عن طريق الرون وقطلونية برفقة راهب آخر، ومعه طائفة نفيسة من الهدايا برسم الخليفة، فاستقبل بحفاوة، وأنزل في إحدى الدور الرسمية. ولكن الناصر لم يبادر باستقباله حين وقف على موضوع رسالته، ولم يقبل بالأخص أن تكون المسائل الدينية موضوع جدل بينهما. ولما ألح يوحنا في طلب المقابلة والمحادثة، أجاب الناصر بأنه سبق أن أرسل رسولا أسقفاً إلى أوتو فاعتقله مدى ثلاثة أعوام، وأنه سيعتقله أى يوحنا، أضعاف هذه المدة، لأنه أرفع مقاماً من ملك النصرانية. وأخيراً تقرر أن يرسل الناصر إلى ملك الألمان رسولا آخر يستوثق من عواطفه ونياته نحوه، وأن يبقي يوحنا معتقلا حتى يعود السفير.

واختير لهذه السفارة كالعادة قس من رعايا الخليفة هو ربيع أو ريفا الأسقف، وكان عالماً متمكناً يشغل في البلاط منصباً هاماً، ويحبوه الناصر بعطفه وتقديره، لعلمه وجليل خدماته (٣)، فاخترق فرنسا إلى ألمانيا، ومثل لدى الإمبراطور أوتو في تورنجن، حيث كان ينفق معظم أوقاته. وكان أوتو يجوز يومئذ بعض المتاعب الداخلية من جراء ثورة ولده عليه، فأبدى تساهلا في قبول وجهات نظر الخليفة، وأكرم مثوى سفيره، وعاد ربيع الأسقف إلى قرطبة، بعد سنتين من سفره (٣٤٧ هـ - ٩٥٨ م). فارتاح الناصر لنتائج سفارته، وأذن برؤية يوحنا سفير


(١) Reinaud: Invasions des Sarrazins en France p. ١٨٧
(٢) تناولنا قصة هذه المستعمرات في الفصل التالي.
(٣) ابن خلدون ج ٤ ص ١٤٣. وهو ربيع بن زيد عن زعماء النصارى المعاهدين، وكان يجيد العربية واللاتينية.

<<  <  ج: ص:  >  >>